[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ]
١٩١ -
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ الْفِتْنَةِ مِنْ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ وَهُوَ وَقْعَةُ الْحُفْرَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ الْأَمِيرُ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ الْأُمَوِيُّ، صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، بِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافِ رَجُلٍ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِهَا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ طُلَيْطِلَةَ كَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعُوهُمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَوِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِحَصَانَةِ بَلَدِهِمْ وَكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَلَمْ يَكُونُوا يُطِيعُونَ أُمَرَاءَهُمْ طَاعَةً مُرْضِيَةً، فَلَمَّا أَعْيَا الْحَكَمَ شَأْنُهُمْ أَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الظَّفَرِ بِهِمْ، فَاسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِعَمْرُوسَ بْنِ يُوسُفَ الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلِّدِ، وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِالثَّغْرِ الْأَعْلَى، فَأَظْهَرَ طَاعَةَ الْحَكَمِ، وَدَعَا إِلَيْهِ، فَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ وَشْقَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ فَحَضَرَ عِنْدَهُ، فَأَكْرَمَهُ الْحَكَمُ، وَبَالَغَ فِي إِكْرَامِهِ، وَأَطْلَعَهُ عَلَى عَزْمِهِ فِي أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، وَوَاطَأَهُ عَلَى التَّدْبِيرِ عَلَيْهِمْ، فَوَلَّاهُ طُلَيْطِلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِهَا يَقُولُ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ لَكُمْ فُلَانًا، وَهُوَ مِنْكُمْ، لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَعْفَيْتُكُمْ مِمَّنْ تَكْرَهُونَ مِنْ عُمَّالِنَا وَمَوَالِينَا، وَلِتَعْرِفُوا جَمِيلَ رَأَيْنَا فِيكُمْ.
فَمَضَى عَمْرُوسٌ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ طُلَيْطِلَةَ، فَأَنِسَ بِهِ أَهْلُهَا، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ، وَأَحْسَنَ عِشْرَتَهُمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَا عَمِلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحِيلَةِ أَنْ أَظْهَرَ لَهُمْ مُوَافَقَتَهُمْ عَلَى بُغْضِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَخَلْعِ طَاعَتِهِمْ، فَمَالُوا إِلَيْهِ، وَوَثِقُوا بِمَا يَفْعَلُهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ سَبَبَ الشَّرِّ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْأَمِيرِ إِنَّمَا هُوَ اخْتِلَاطُهُمْ بِكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَبْنِيَ بِنَاءً أَعْتَزِلُ فِيهِ أَنَا وَأَصْحَابُ السُّلْطَانِ رِفْقًا بِكُمْ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَنَى فِي وَسَطِ الْبَلَدِ مَا أَرَادَ.
فَلَمَّا مَضَى لِذَلِكَ مُدَّةٌ كَتَبَ الْأَمِيرُ الْحَكَمُ إِلَى عَامِلٍ لَهُ عَلَى الثَّغْرِ الْأَعْلَى سِرًّا، يَأْمُرُهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ يَسْتَغِيثُ مِنْ جُيُوشِ الْكَفَرَةِ، وَطَلَبَ النَّجْدَةَ وَالْعَسَاكِرَ، فَفَعَلَ الْعَامِلُ ذَلِكَ، فَحَشَدَ الْحَكَمُ الْجُيُوشَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَحَشَدَ مَعَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute