قُوَّادَهُ وَوُزَرَاءَهُ، فَسَارَ الْجَيْشُ وَاجْتَازَ بِمَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِدُخُولِهَا، فَأَتَاهُ وَهُوَ عِنْدَهَا الْخَبَرُ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِلِ أَنَّ عَسَاكِرَ الْكَفَرَةِ قَدْ تَفَرَّقَتْ، وَكَفَى اللَّهُ شَرَّهَا، فَتَفَرَّقَ الْعَسْكَرُ، وَعَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى قُرْطُبَةَ، فَقَالَ عَمْرُوسٌ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ طُلَيْطِلَةَ: قَدْ تَرَوْنَ نُزُولَ وَلَدِ الْحَكَمِ إِلَى جَانِبِي، وَإِنَّهُ يَلْزَمُنِي الْخُرُوجُ إِلَيْهِ وَقَضَاءُ حَقِّهِ، فَإِنْ نَشِطْتُمْ لِذَلِكَ وَإِلَّا سِرْتُ إِلَيْهِ وَحْدِي. فَخَرَجَ مَعَهُ وُجُوهُ أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.
وَكَانَ الْحَكَمُ قَدْ أَرْسَلَ مَعَ وَلَدِهِ خَادِمًا لَهُ، وَمَعَهُ كِتَابٌ لَطِيفٌ إِلَى عَمْرُوسٍ، فَأَتَاهُ الْخَادِمُ وَصَافَحَهُ، وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَادِثَهُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَمْرُوسٌ الْكِتَابَ رَأَى فِيهِ كَيْفَ تَكُونُ الْحِيلَةُ عَلَى أَهْلِ طُلَيْطِلَةَ، فَأَشَارَ إِلَى أَعْيَانِ أَهْلِهَا بِأَنْ يَسْأَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ الدُّخُولَ إِلَيْهِمْ لِيَرَى هُوَ وَأَهْلُ عَسْكَرِهِ كَثْرَتَهُمْ، وَمَنَعَتَهُمْ، وَقُوَّتَهُمْ، فَظَنَّوْهُ يَنْصَحُهُمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَأَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْبَلَدَ، وَنَزَلَ مَعَ عَمْرُوسٍ فِي دَارِهِ، وَأَتَاهُ أَهْلُ طُلَيْطِلَةَ أَرْسَالًا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ.
وَأَشَاعَ عَمْرُوسٌ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُمْ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَشَرَعَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَوَاعَدَهُمْ يَوْمًا ذَكَرَهُ، وَقَرَّرَ مَعَهُمْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ بَابٍ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ آخَرَ لِيَقِلَّ الزِّحَامُ،، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ أَتَاهُ النَّاسُ أَفْوَاجًا، فَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ فَوْجٌ أُخِذُوا وَحُمِلُوا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ عَلَى حُفْرَةٍ كَبِيرَةٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ، فَضُرِبَتْ رِقَابُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا تَعَالَى النَّهَارُ أَتَى بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَرَ أَحَدًا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ، فَقَالَ: مَا لَقِيَنِي مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَعَلِمَ الْحَالَ، وَصَاحَ، وَأَعْلَمَ النَّاسَ هَلَاكَ أَصْحَابِهِمْ، فَكَانَ سَبَبَ نَجَاةِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، فَذَلَّتْ رِقَابُهُمْ بَعْدَهَا، وَحَسُنَتْ طَاعَتُهُمْ بَقِيَّةَ أَيَّامِ الْحَكَمِ وَأَيَّامِ وَلَدِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ انْجَبَرَتْ مُصِيبَتُهُمْ، وَكَثُرُوا، فَلَمَّا هَلَكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَوَلِيَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ عَاجَلُوهُ بِالْخَلْعِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ.
ذِكْرُ عِصْيَانِ أَهْلِ مَارِدَةَ عَلَى الْحَكَمِ وَمَا فَعَلَهُ بِأَهْلِ قُرْطُبَةَ
وَفِيهَا عَصَى أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَافَقَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ مَارِدَةَ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، عَلَى الْحَكَمِ، وَأَخْرَجُوا عَامِلَهُ، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِالْحَكَمِ، فَسَارَ إِلَيْهَا وَحَاصَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ مُجِدٌّ فِي الْحِصَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute