فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ بِرَدِّ السَّبْيِ، وَوَدَى مَالِكًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: مَا بَلَغَ بِكَ الْوَجْدُ عَلَى أَخِيكَ؟ قَالَ: بَكَيْتُهُ حَوْلًا حَتَّى أَسْعَدَتْ عَيْنِي الذَّاهِبَةَ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ، وَمَا رَأَيْتُ نَارًا قَطُّ إِلَّا كِدْتُ أَنْقَطِعُ أَسَفًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُوقِدُ نَارَهُ إِلَى الصُّبْحِ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيَهُ ضَيْفٌ وَلَا يَعْرِفَ مَكَانَهُ. قَالَ: فَصِفْهُ لِي. قَالَ: كَانَ يَرْكَبُ الْفَرَسَ الْحَرُونَ، وَيَقُودُ الْجَمَلَ الثِّقَالَ، وَهُوَ بَيْنَ الْمَزَادَتَيْنِ النَّضُوخَتَيْنِ فِي اللَّيْلَةِ الْقَرَّةِ، وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ فَلُوتٌ، مُعْتَقِلًا رُمْحًا خَطِلًا، فَيَسْرِي لَيْلَتَهُ ثُمَّ يُصْبِحُ وَكَأَنَّ وَجْهَهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ. قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضَ مَا قُلْتَ فِيهِ، فَأَنْشَدَهُ مَرْثِيَّتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا ... لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ كُنْتُ أَقُولُ الشِّعْرَ لَرَثَيْتُ أَخِي زَيْدًا. فَقَالَ مُتَمِّمٌ: وَلَا سَوَاءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَ أَخِي صُرِعَ مَصْرَعَ أَخِيكَ لَمَا بَكَيْتُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا عَزَّانِي أَحَدٌ بِأَحْسَنَ مِمَّا عَزَّيْتَنِي بِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قُتِلَ الْوَلِيدُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ابْنَا عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، وَهُمَا ابْنَا أَخِي خَالِدٍ، لَهُمَا صُحْبَةٌ.
[ذِكْرُ مُسَيْلِمَةَ وَأَهْلِ الْيَمَامَةِ]
قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَجِيءَ مُسَيْلِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ السَّرَايَا إِلَى الْمُرْتَدِّينَ، أَرْسَلَ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي عَسْكَرٍ إِلَى مُسَيْلِمَةَ، وَأَتْبَعَهُ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ، فَعَجَّلَ عِكْرِمَةُ لِيَذْهَبَ بِصَوْتِهَا، فَوَاقَعَهُمْ فَنَكَبُوهُ، وَأَقَامَ شُرَحْبِيلُ بِالطَّرِيقِ حِينَ أَدْرَكَهُ الْخَبَرُ، وَكَتَبَ عِكْرِمَةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْخَبَرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ: لَا أَرَيَنَّكَ وَلَا تَرَانِي، لَا تَرْجِعَنَّ فَتُوهِنَ النَّاسَ، امْضِ إِلَى حُذَيْفَةَ وَعَرْفَجَةَ فَقَاتِلْ أَهْلَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ، ثُمَّ تَسِيرُ أَنْتَ وَجُنْدُكَ تَسْتَبْرُونَ النَّاسَ، حَتَّى تَلْقَى مُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute