فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمْثَالَ أَوْضَحُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْكَلَامِ، إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَهْلَ جَهْدٍ وَقَشَفٍ لَا تَنْتَصِفُونَ وَلَا تَمْتَنِعُونَ فَلَمْ نُسِئْ جِوَارَكُمْ، وَكُنَّا نَمِيرُكُمْ وَنُحْسِنُ إِلَيْكُمْ، فَلَمَّا طَعِمْتُمْ طَعَامَنَا وَشَرِبْتُمْ شَرَابَنَا وَصَفْتُمْ لِقَوْمِكُمْ ذَلِكَ، وَدَعَوْتُمُوهُمْ ثُمَّ أَتَيْتُمُونَا، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُنَا كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ لَهُ كَرْمٌ فَرَأَى فِيهِ ثَعْلَبًا، فَقَالَ: وَمَا ثَعْلَبٌ! فَانْطَلَقَ الثَّعْلَبُ، فَدَعَا الثَّعَالِبَ إِلَى ذَلِكَ الْكَرْمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ سَدَّ صَاحِبُ الْكَرْمِ النَّقْبَ الَّذِي كُنَّ يَدْخُلْنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُنَّ ; فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا: الْحِرْصُ وَالْجَهْدُ، فَارْجِعُوا وَنَحْنُ نَمِيرُكُمْ، فَإِنِّي لَا أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ، وَمَثَلُكُمْ أَيْضًا كَالذُّبَابِ يَرَى الْعَسَلَ فَيَقُولُ: مَنْ يُوصِلُنِي إِلَيْهِ وَلَهُ دِرْهَمَانِ؟ فَإِذَا دَخَلَهُ غَرِقَ وَنَشِبَ، فَيَقُولُ: مَنْ يُخْرِجُنِي وَلَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ؟ وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ رَجُلًا وَضَعَ سَلَّةً وَجَعَلَ طَعَامًا فِيهَا، فَأَتَى الْجُرْذَانُ فَخَرَقْنَ السَّلَّةَ، فَدَخَلْنَ فِيهَا، فَأَرَادَ سَدَّهَا فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ إِذَنْ يَخْرِقْنَهُ، لَكِنِ انْقُبْ بِحِيَالِهِ، ثُمَّ اجْعَلْ (فِيهَا) قَصَبَةً مُجَوَّفَةً، فَإِذَا دَخَلَهَا الْجُرْذَانُ وَخَرَجْنَ مِنْهَا فَاقْتُلْ كُلَّ مَا خَرَجَ مِنْهَا، وَقَدْ سَدَدْتُ عَلَيْكُمْ (فَإِيَّاكُمْ) أَنْ تَقْتَحِمُوا الْقَصَبَةَ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ، فَمَا دَعَاكُمْ إِلَى مَا صَنَعْتُمْ وَلَا أَرَى عَدَدًا وَلَا عُدَّةً! .
قَالَ: فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ، وَذَكَرُوا سُوءَ حَالِهِمْ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولِهِ، وَاخْتِلَافِهِمْ أَوَّلًا، ثُمَّ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَقَالُوا: وَأَمَّا مَا ضَرَبْتَ لَنَا مِنَ الْأَمْثَالِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ غَرَسَ أَرْضًا وَاخْتَارَ لَهَا الشَّجَرَ، وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْأَنْهَارَ، وَزَيَّنَهَا بِالْقُصُورِ، وَأَقَامَ فِيهَا فَلَّاحِينَ يَسْكُنُونَ قُصُورَهَا وَيَقُومُونَ عَلَى جِنَانِهَا، فَخَلَا الْفَلَّاحُونَ فِي الْقُصُورِ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ، فَأَطَالَ إِمْهَالَهُمْ فَلَمْ يَسْتَحْيُوا، فَدَعَا إِلَيْهَا غَيْرَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، فَإِنْ ذَهَبُوا عَنْهَا تَخَطَّفَهُمُ النَّاسُ وَإِنْ أَقَامُوا فِيهَا صَارُوا خَوَلًا لِهَؤُلَاءِ فَيَسُومُونَهُمُ الْخَسْفَ أَبَدًا ; وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا نَقُولُ حَقًّا، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الدُّنْيَا، لَمَا صَبَرْنَا عَنِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ لَذِيذِ عَيْشِكُمْ، وَرَأَيْنَا مَنْ بُزُرْجُكُمْ، وَلَقَارَعْنَاكُمْ عَلَيْهِ! .
فَقَالَ رُسْتُمُ: أَتَعْبُرُونَ إِلَيْنَا أَمْ نَعْبُرُ إِلَيْكُمْ؟ فَقَالُوا: بَلِ اعْبُرُوا إِلَيْنَا.
وَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهِ عَشِيًّا، وَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا مَوَاقِفَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: شَأْنُكَمْ وَالْعُبُورَ، فَأَرَادُوا الْقَنْطَرَةَ فَقَالَ: لَا وَلَا كَرَامَةَ! أَمَّا شَيْءٌ غَلَبْنَاكُمْ عَلَيْهِ فَلَنْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ. فَبَاتُوا يُسَكِّرُونَ الْعَتِيقَ حَتَّى الصَّبَاحِ بِالتُّرَابِ وَالْقَصَبِ وَالْبَرَاذِعِ حَتَّى جَعَلُوهُ طَرِيقًا، وَاسْتَتَمَّ بَعْدَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute