فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، فَمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا هُوَ يَصْنَعُهُ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ نَفْسَكَ وَأَهْلَ بِلَادِكَ فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، فَاللَّهُ صَنَعَهُ بِكُمْ وَوَضَعَهُ فِيكُمْ، وَهُوَ لَهُ دُونَكُمْ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ فِينَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ وَالضِّيقِ وَالِاخْتِلَافِ فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، وَاللَّهُ ابْتَلَانَا بِهِ وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّدَائِدِ يَتَوَقَّعُونَ الرَّخَاءَ حَتَّى يَصِيرُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الرَّخَاءِ يَتَوَقَّعُونَ الشَّدَائِدَ حَتَّى تَنْزِلَ بِهِمْ، وَلَوْ شَكَرْتُمْ مَا آتَاكُمُ اللَّهُ لَكَانَ شُكْرُكُمْ يُقَصِّرُ عَمَّا أُوتِيتُمْ، وَأَسْلَمَكُمْ ضُعْفُ الشُّكْرِ إِلَى تَغَيُّرِ الْحَالِ، وَلَوْ كُنَّا فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ أَهْلَ كُفْرٍ لَكَانَ عَظِيمُ مَا ابْتُلِينَا بِهِ مُسْتَجْلِبًا مِنَ اللَّهِ رَحْمَةً يُرَفِّهُ بِهَا عَنَّا، إِنَّ اللَّهَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بَعَثَ فِينَا رَسُولًا. ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقِتَالِ، وَقَالَ لَهُ: وَإِنَّ عِيَالَنَا قَدْ ذَاقُوا طَعَامَ بِلَادِكُمْ، فَقَالُوا: لَا صَبْرَ لَنَا عَنْهُ.
فَقَالَ رُسْتُمُ: إِذًا تَمُوتُونَ دُونَهَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَدْخُلُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ مِنْكُمُ النَّارَ، وَيَظْفَرُ مَنْ بَقِيَ مِنَّا بِمَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ.
فَاسْتَشَاطَ رُسْتُمُ غَضَبًا ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ الصُّبْحُ غَدًا حَتَّى نَقْتُلَكُمْ أَجْمَعِينَ. وَانْصَرَفَ الْمُغِيرَةُ وَخَلَصَ رُسْتُمُ بِأَهْلِ فَارِسَ وَقَالَ: أَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنْكُمْ! هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ الرِّجَالُ، صَادِقِينَ كَانُوا أَمْ كَاذِبِينَ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ بَلَغَ مِنْ عَقْلِهِمْ وَصَوْنِهِمْ لِسِرِّهِمْ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا، فَمَا قَوْمٌ أَبْلَغَ لِمَا أَرَادُوا مِنْهُمْ، وَلَئِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَمَا يَقُومُ لِهَؤُلَاءِ شَيْءٌ! فَلُجُّوا وَتَجَلَّدُوا.
فَأَرْسَلَ رُسْتُمُ مَعَ الْمُغِيرَةِ وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَطَعَ الْقَنْطَرَةَ فَأَعْلِمْهُ أَنَّ عَيْنَهُ تُفْقَأُ غَدًا، فَأَعْلَمَهُ الرَّسُولُ ذَلِكَ: فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: بَشَّرْتَنِي بِخَيْرٍ وَأَجْرٍ، وَلَوْلَا أَنْ أُجَاهِدَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَشْبَاهَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأُخْرَى ذَهَبَتْ. فَرَجَعَ إِلَى رُسْتُمَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: أَطِيعُونِي يَا أَهْلَ فَارِسَ، إِنِّي لَأَرَى لِلَّهِ فِيكُمْ نِقْمَةً لَا تَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ سَعْدٌ بَقِيَّةَ ذَوِي الرَّأْيِ فَسَارُوا، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، إِلَى رُسْتُمَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا يَدْعُوكَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَنَا وَلَكَ، الْعَافِيَةُ أَنْ تَقْبَلَ مَا دَعَاكَ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَنَرْجِعُ إِلَى أَرْضِنَا، وَتَرْجِعُ إِلَى أَرْضِكَ، وَدَارُكُمْ لَكُمْ وَأَمْرُكُمْ فِيكُمْ، وَمَا أَصَبْتُمْ كَانَ زِيَادَةً لَكُمْ دُونَنَا، وَكُنَّا عَوْنًا لَكُمْ عَلَى أَحَدٍ إِنْ أَرَادَكُمْ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا يَكُونَنَّ هَلَاكُ قَوْمِكَ عَلَى يَدِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ تُغْبَطَ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ، وَتَطْرُدَ بِهِ الشَّيْطَانَ عَنْكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute