وَمَضَى حَتَّى نَزَلَ الْكُرْزَ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُ، فَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حِذَاءَ الْكُرْزِ) ، وَنَزَلَ قُتَيْبَةُ بِمَنْزِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرْسَخَانِ، فَتَحَصَّنَ نِيزَكُ فِي الْكُرْزِ وَلَيْسَ إِلَيْهِ مَسْلَكٌ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ صَعْبٌ لَا تُطِيقُهُ الدَّوَابُّ، فَحَصَرَهُ قُتَيْبَةُ شَهْرَيْنِ حَتَّى قَلَّ مَا فِي يَدِ نِيزَكَ مِنَ الطَّعَامِ وَأَصَابَهُمُ الْجُدَرِيُّ، وَجُدِرَ جَبْغَوَيْهِ.
وَخَافَ قُتَيْبَةُ الشِّتَاءَ، فَدَعَا سُلَيْمًا النَّاصِحَ، فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى نِيزَكَ وَاحْتَلْ لِتَأْتِيَنِي بِهِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَإِنِ احْتَالَ وَأَبَى فَآمِنْهُ، وَاعْلَمْ أَنِّي إِنْ عَايَنْتُكَ وَلَيْسَ هُوَ مَعَكَ صَلَبْتُكَ. قَالَ: فَاكْتُبْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يُخَالِفْنِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ رِجَالًا لِيَكُونُوا عَلَى فَمِ الشِّعْبِ، فَإِذَا خَرَجْتُ أَنَا وَنِيزَكُ فَلْيَعْطِفُوا مِنْ وَرَائِنَا فَيَحُولُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشِّعْبِ، فَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ خَيْلًا، فَكَانَتْ هُنَاكَ، وَحَمَلَ سُلَيْمٌ مَعَهُ أَطْعِمَةً وَأَخْبِصَةً أَوَقَارًا، وَأَتَى نِيزَكَ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَسَأْتَ إِلَى قُتَيْبَةَ وَغَدَرْتَ. قَالَ نِيزَكُ: فَمَا الرَّأْيُ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ تَأْتِيَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَارِحٍ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَشْتُوَ مَكَانَهُ هَلَكَ أَوْ سَلِمَ. قَالَ نِيزَكُ: فَكَيْفَ آتِيهِ عَلَى غَيْرِ أَمَانٍ؟ قَالَ: مَا أَظُنُّهُ يُؤَمِّنُكَ; لِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَيْكَ; لِأَنَّكَ قَدْ مَلَأْتَهُ غَيْظًا، وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ لَا يَعْلَمَ [بِكَ] حَتَّى تَضَعَ يَدَكَ فِي يَدِهِ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَسْتَحِيَ وَيَعْفُوَ [عَنْكَ] ، قَالَ: إِنِّي أَرَى نَفْسِي تَأْبَى هَذَا وَهُوَ إِنْ رَآنِي قَتَلَنِي، فَقَالَ سُلَيْمٌ: مَا أَتَيْتُكَ إِلَّا لِأُشِيرَ عَلَيْكَ بِهَذَا، وَلَوْ فَعَلْتَ لَرَجَوْتُ أَنْ تَسْلَمَ وَتَعُودَ حَالُكَ عِنْدَهُ، فَإِذَا أَبَيْتَ فَإِنِّي مُنْصَرِفٌ.
وَقَدَّمَ سُلَيْمٌ الطَّعَامَ الَّذِي مَعَهُ، وَلَا عَهْدَ لَهُمْ بِمِثْلِهِ، فَانْتَهَبَهُ أَصْحَابُ نِيزَكَ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمٌ: إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ، أَرَى أَصْحَابَكَ قَدْ جَهِدُوا، وَإِنْ طَالَ بِهِمُ الْحِصَارُ لَمْ آمَنْهُمْ أَنْ يَسْتَأْمِنُوا بِكَ، فَأْتِ قُتَيْبَةَ، فَقَالَ: لَا آمَنُهُ عَلَى نَفْسِي وَلَا آتِيهِ إِلَّا بِأَمَانٍ، وَإِنَّ ظَنِّي أَنْ يَقْتُلَنِي وَإِنْ آمَنَنِي، وَلَكِنَّ الْأَمَانَ أَعْذَرُ إِلَيَّ. فَقَالَ سُلَيْمٌ: قَدْ آمَنَكَ، أَفَتَتَّهِمُنِي؟ قَالَ: لَا. وَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: اقْبَلْ قَوْلَ سُلَيْمٍ فَلَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا.
فَخَرَجَ مَعَهُ وَمَعَ جَبْغَوَيْهِ وَصُولُ طَرْخَانَ، خَلِيفَةُ جَبْغَوَيْهِ، وَحَبَسَ طَرْخَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ وَشَقْرَانَ ابْنَ أَخِي نِيزَكَ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ عَطَفَتِ الْخَيْلُ الَّتِي خَلَّفَهَا سُلَيْمٌ، فَحَالُوا بَيْنَ الْأَتْرَاكِ أَصْحَابِ نِيزَكَ وَالْخُرُوجِ، فَقَالَ نِيزَكُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ. قَالَ سُلَيْمٌ: تَخَلُّفُ هَؤُلَاءِ عَنْكَ خَيْرٌ لَكَ. وَأَقْبَلَ سُلَيْمٌ وَنِيزَكُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى دَخَلُوا إِلَى قُتَيْبَةَ، فَحَبَسَهُمْ وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ نِيزَكَ، وَوَجَّهَ قُتَيْبَةُ [مُعَاوِيَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عَلْقَمَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute