فَهَلَكَ أَكْثَرُهُمْ، وَفَرَّ مِنْهَا مَنْ أَطَاقَ الْفِرَارَ، فَخَلَتِ الْأَنْدَلُسُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ ابْتَعَثَ اللَّهُ لِعِمَارَتِهَا الْأَفَارِقَةَ، فَدَخَلَ إِلَيْهَا قَوْمٌ مِنْهُمْ أَجْلَاهُمْ مَلِكُ إِفْرِيقِيَّةَ تَخَفُّفًا مِنْهُمْ لِقَحْطٍ تَوَالَى عَلَى بِلَادِهِ حَتَّى كَادَ يُفْنِي أَهْلَهَا، فَحَمَلَهُمْ فِي السُّفُنِ مَعَ أَمِيرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَأَرْسَوْا بِجَزِيرَةِ قَادِسَ، وَرَأَوُا الْأَنْدَلُسَ قَدْ أَخْصَبَتْ بِلَادُهَا، وَجَرَتْ أَنْهَارُهَا، فَسَكَنُوهَا، وَعَمَّرُوهَا، وَنَصَبُوا لَهُمْ مُلُوكًا يَضْبِطُونَ أَمْرَهُمْ، وَهُمْ عَلَى دِينِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَكَانَتْ دَارُ مَمْلَكَتِهِمْ طَالِقَةَ الْخَرَابِ مِنْ أَرْضِ إِشْبِيلِيَّةَ بَنَوْهَا وَسَكَنُوهَا، وَأَقَامُوا مُدَّةً تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، مَلَكَ مِنْهُمْ فِيهَا أَحَدَ عَشَرَ مَلِكًا.
ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَجَمَ رُومَةَ، وَمَلِكُهُمْ إِشْبَانُ بْنُ طِيطَسَ، فَغَزَاهُمْ وَمَزَّقَهُمْ وَقَتَلَ فِيهِمْ، وَحَاصَرَهُمْ بِطَالِقَةَ وَقَدْ تَحَصَّنُوا فِيهَا فَابْتَنَى عَلَيْهِمْ إِشْبَانِيَّةَ، وَهِيَ إِشْبِيلِيَّةَ، وَاتَّخَذَهَا دَارَ مَمْلَكَتِهِ، وَكَثُرَتْ جُمُوعُهُ وَعَتَا وَتَجَبَّرَ، وَغَزَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَغَنِمَ مَا فِيهِ وَقَتَلَ فِيهِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَنَقَلَ الْمَرْمَرَ مِنْهُ إِلَى إِشْبِيلِيَّةَ وَغَيْرِهَا، وَغَنِمَ أَيْضًا مَائِدَةَ سُلَيْمَانَبْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ الَّتِي غَنِمَهَا طَارِقٌ مِنْ طُلَيْطِلَةَ لَمَّا افْتَتَحَهَا، وَغَنِمَ أَيْضًا قُلَيْلَةَ الذَّهَبِ وَالْحَجَرِ الَّذِي لُقِيَ بِمَارِدَةَ.
وَكَانَ هَذَا إِشْبَانُ قَدْ وَقَفَ عَلَيْهِ الْخَضِرُ وَهُوَ يَحْرُثُ الْأَرْضَ فَقَالَ لَهُ: يَا إِشْبَانُ سَوْفَ تَحْظَى وَتَمْلِكُ وَتَعْلُو، فَإِذَا مَلَكْتَ إِيلِيَاءَ فَارْفُقْ بِذُرِّيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَقَالَ: أَتُسْخَرُ مِنِّي؟ كَيْفَ يَنَالُ مِثْلِي الْمُلْكَ؟ فَقَالَ: قَدْ جَعَلَهُ فِيكَ مَنْ جَعَلَ عَصَاكَ هَذِهِ كَمَا تَرَى. فَنَظَرَ فَإِذَا هِيَ قَدْ أَوْرَقَتْ، فَارْتَاعَ وَذَهَبَ عَنْهُ الْخَضِرُ، وَقَدْ وَثِقَ إِشْبَانُ بِقَوْلِهِ، فَدَاخَلَ النَّاسَ، فَارْتَقَى حَتَّى مَلَكَ مُلْكًا عَظِيمًا، وَكَانَ مُلْكُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَدَامَ مُلْكُ الْإِشْبَانِيِّينَ بَعْدَهُ إِلَى أَنْ مُلِّكَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ مَلِكًا.
ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَجَمِ رُومَةَ أَمَّةٌ يُدْعَونَ الْبَشْنُولِيَّاتِ، وَمَلِكُهُمْ طُوَيْشُ بْنُ نِيطَهْ، وَذَلِكَ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ، فَغَلَبُوا عَلَيْهَا، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى مُلْكِهَا، وَكَانَتْ مَدِينَةُ مَارِدَةَ دَارَ مَمْلَكَتِهِمْ، وَمَلَكَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ مَلِكًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ أُمَّةُ الْقُوطِ مَعَ مَلِكٍ لَهُمْ، فَغَلَبُوا عَلَى الْأَنْدَلُسِ فَاقْتَطَعُوهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute