كَأَنَّكُمُ لَمْ تَشْهَدُوا مَرْجَ رَاهِطٍ
وَلَمْ تَعْلَمُوا مَنْ كَانَ ثَمَّ لَهُ الْفَضْلُ ... وَقَيْنَاكُمْ حَرَّ الْقَنَا بِنُحُورِنَا
وَلَيْسَ لَكُمْ خَيْلٌ تُعَدُّ وَلَا رَجْلُ
فَلَمَّا بَلَغَ شِعْرُهُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ عَنْهُ، فَأُعْلِمَ أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ كَلْبٍ، وَكَانَ هِشَامٌ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ الْكَلْبِيَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ أَنْ يُوَلِّيَ أَبَا الْخَطَّارِ الْأَنْدَلُسَ، فَوَلَّاهُ وَسَيَّرَهُ إِلَيْهَا، فَدَخَلَ قُرْطُبَةَ يَوْمَ جُمْعَةٍ فَرَأَى ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلَامَةَ أَمِيرَهَا قَدْ أَحْضَرَ الْأُسَارَى الْأَلْفَ مِنَ الْبَرْبَرِ، الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَسْرِهِمْ، لِيَقْتُلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو الْخَطَّارِ دَفَعَ الْأَسْرَى إِلَيْهِ، فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِمْ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ بِالْأَنْدَلُسِ قَدْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ مَعَ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَلَامَةَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو الْخَطَّارِ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيَسْتَمِيلُهُمْ حَتَّى أَقَامُوا، فَأَنْزَلَ كُلَّ قَوْمٍ عَلَى شِبْهِ مَنَازِلِهِمْ بِالشَّامِ، فَلَمَّا رَأَوْا بَلَدًا يُشْبِهُ بُلْدَانَهُمْ أَقَامُوا. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ إِنَّمَا فَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ لِأَنَّ قُرْطُبَةَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَخْبَارِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
قِيلَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ خَالَهُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وَالِيًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ مُحَمَّدًا وَإِبْرَاهِيمَ ابْنَيْ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ مُوثَقَيْنِ فِي عَبَاءَتَيْنِ، فَقَدِمَ بِهِمَا الْمَدِينَةَ فِي شَعْبَانَ فَأَقَامَهُمَا لِلنَّاسِ، ثُمَّ حُمِلَا إِلَى الشَّامِ فَأُحْضِرُوا عِنْدَ الْوَلِيدِ، فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَسْأَلُكَ بِالْقَرَابَةِ! قَالَ: وَأَيُّ قُرَابَةٍ بَيْنَنَا؟ قَالَ: فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَرْبٍ بِسَوْطٍ إِلَّا فِي حَدٍّ. قَالَ: فَفِي حَدٍّ أَضْرِبُكَ وَقَوَدٍ، أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ بِالْعَرْجِيِّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ، وَأَقَامَهُ لِلنَّاسِ وَجَلَدَهُ وَسَجَنَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ لِهِجَاءِ الْعَرْجِيِّ إِيَّاهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَجُلِدَ هُوَ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ أَوْثَقَهُمَا حَدِيدًا وَأَمَرَ أَنْ يُبْعَثَ بِهِمَا إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ عَلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَ بِهِمَا عَذَّبَهُمَا حَتَّى مَاتَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْوَلِيدُ سَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَضَاءِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّاهُ يَحْيَى بْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute