وَأَمَرَنِي فَنِمْتُ حِذَاءَهُ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا إِسْحَاقُ إِنَّ فِي قَلْبِي أَمْرًا أَنَا مُفَكِّرٌ فِيهِ مُنْذُ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَإِنَّمَا بَسَطْتُكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِأُفْشِيَهُ إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: قُلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ.
قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَخِي الْمَأْمُونِ وَقَدِ اصْطَنَعَ أَرْبَعَةً، فَلَمْ يُفْلِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، قُلْتُ: وَمَنِ الَّذِينَ اصْطَنَعَهُمُ الْمَأْمُونُ؟ قَالَ: طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ، فَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَأَنْتَ فَأَنْتَ وَاللَّهِ الرَّجُلُ الَّذِي لَا يَعْتَاضُ السُّلْطَانُ عَنْكَ أَبَدًا، وَأَخُوكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَيْنَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ؟ وَأَنَا فَاصْطَنَعْتُ الْأَفْشِينَ، فَقَدْ رَأَيْتَ إِلَى مَا صَارَ أَمْرُهُ، وَأَشْنَاسَ فَفَشِلَ، وَإِيتَاخَ فَلَا شَيْءَ، وَوَصِيفًا فَلَا مَعْنَى فِيهِ.
فَقُلْتُ: أُجِيبُ عَلَى أَمَانٍ مِنْ غَضَبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَظَرَ أَخُوكَ إِلَى الْأُصُولِ فَاسْتَعْمَلَهَا، فَأَنْجَبْتَ، وَاسْتَعْمَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فُرُوعًا، فَلَمْ تُنْجِبْ إِذْ لَا أُصُولَ لَهَا! فَقَالَ: يَا إِسْحَاقُ، لَمُقَاسَاةُ مَا مَرَّ بِي طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَيْسَرُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادَ: تَصَدَّقَ الْمُعْتَصِمُ، وَوَهَبَ عَلَى يَدَيَّ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمِ.
وَحُكِيَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ قَدِ انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي يَوْمِ مَطَرٍ، فَبَيْنَا هُوَ يُسَيِّرُ رَحْلَهُ إِذْ رَأَى شَيْخًا مَعَهُ حِمَارٌ عَلَيْهِ حِمْلُ شَوْكٍ، وَقَدْ زَلِقَ الْحِمَارُ، وَسَقَطَ، وَالشَّيْخُ قَائِمٌ يَنْتَظِرُ مَنْ يَمُرُّ بِهِ فَيُعِينُهُ عَلَى حَمْلِهِ، فَسَأَلَهُ الْمُعْتَصِمُ عَنْ حَالِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ; لِيُخَلِّصَ الْحِمَارَ عَنِ الْوَحْلِ، وَيَرْفَعَ عَلَيْهِ حِمْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَا تُبَلِّلْ ثِيَابَكَ وَطِيبَكَ! فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَلَّصَ الْحِمَارَ، وَجَعَلَ الشَّوْكَ عَلَيْهِ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا شَابُّ! ثُمَّ لَحِقَهُ أَصْحَابُهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَسِيرُ مَعَهُ إِلَى بَيْتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute