فَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْفِطْرِ قَالَ: مُرُوا الْمُنْتَصِرَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ! فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَدْ كَانَ النَّاسُ يَتَطَلَّعُونَ إِلَى رُؤْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَشَدُوا لِذَلِكَ، فَلَمْ يَرْكَبْ، وَلَا يَأْمَنُ إِنْ هُوَ لَمْ يَرْكَبِ الْيَوْمَ، أَنْ يَرْجُفَ النَّاسُ بِعِلَّتِهِ، فَإِذَا رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسُرَّ الْأَوْلِيَاءَ، وَيَكْبِتَ الْأَعْدَاءَ بِرُكُوبِهِ فَلْيَفْعَلْ.
فَرَكِبَ وَقَدْ صُفَّ لَهُ النَّاسُ نَحْوَ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَتَرَجَّلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَصَلَّى، وَرَجَعَ، فَأَخَذَ حِفْنَةً مِنَ التُّرَابِ، فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَثْرَةَ هَذَا الْجَمْعِ، وَرَأَيْتُهُمْ تَحْتَ يَدِي، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَوَاضَعَ لِلَّهِ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ افْتَصَدَ، وَاشْتَهَى لَحْمَ جَزُورٍ، فَأَكَلَهُ، وَكَانَ قَدْ حَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ الْحَفْصِيِّ وَغَيْرُهُ، فَأَكَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ يَوْمٌ أَسَرَّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَدَعَا النُّدَمَاءَ وَالْمُغَنِّينَ، فَحَضَرُوا.
وَأَهْدَتْ لَهُ أُمُّ الْمُعْتَزِّ مُطْرَفَ خَزٍّ أَخْضَرَ، لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَأَطَالَ، وَأَكْثَرَ تَعَجُّبَهُ مِنْهُ، وَأَمَرَ فَقُطِعَ نِصْفَيْنِ وَرَدَّهُ عَلَيْهَا، وَقَالَ لِرَسُولِهَا: وَاللَّهِ إِنَّ نَفْسِي لِتُحَدِّثُنِي أَنِّي لَا أَلْبَسُهُ، وَمَا أُحِبُّ أَنْ يَلْبَسَهُ أَحَدٌ بَعْدِي; وَلِهَذَا أَمَرْتُ بِشَقِّهِ.
قَالَ: فَقُلْنَا: نُعِيذُكَ بِاللَّهِ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ: وَأَخَذَ فِي الشَّرَابِ وَاللَّهْوِ، وَلَجَّ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا وَاللَّهِ مُفَارِقُكُمْ عَنْ قَلِيلٍ! وَلَمْ يَزَلْ فِي لَهْوِهِ وَسُرُورِهِ إِلَى اللَّيْلِ.
وَكَانَ قَدْ عَزَمَ هُوَ وَالْفَتْحُ أَنْ يَفْتِكَا بُكْرَةَ غَدٍ بِالْمُنْتَصِرِ وَوَصِيفٍ وَبُغَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُوَّادِ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ وَاعَدَ الْأَتْرَاكَ وَوَصِيفًا وَغَيْرَهُ عَلَى قَتْلِ الْمُتَوَكِّلِ.
وَكَثُرَ عَبَثُ الْمُتَوَكِّلِ، قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، بِابْنِهِ الْمُنْتَصِرِ، مَرَّةً يَشْتُمُهُ، وَمَرَّةً يَسْقِيهِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَمَرَّةً يَأْمُرُ بِصَفْعِهِ، وَمَرَّةً يَتَهَدَّدُهُ بِالْقَتْلِ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَتْحِ: بَرِئْتُ مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنْ لَمْ تَلْطِمْهُ، يَعْنِي الْمُنْتَصِرَ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَلَطَمَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ جَمِيعًا أَنِّي قَدْ خَلَعْتُ الْمُسْتَعْجَلَ، يَعْنِي الْمُنْتَصِرَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: سَمَّيْتُكَ الْمُنْتَصِرَ، فَسَمَّاكَ النَّاسُ، لِحُمْقِكَ، الْمُنْتَظَرَ، ثُمَّ صِرْتَ الْآنَ الْمُسْتَعْجَلَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute