ذِكْرُ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْمُعْتَزُّ وَالْمُؤَيَّدُ ابْنَا الْمُتَوَكِّلِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَكَانَ سَبَبُ خَلْعِهِمَا أَنَّ الْمُنْتَصِرَ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ الْأُمُورُ، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْخَطِيبِ لِوَصِيفٍ وَبُغَا: إِنَّا لَا نَأْمَنُ الْحِدْثَانَ، وَأَنْ يَمُوتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَلِيَ الْمُعْتَزُّ الْخِلَافَةَ، فَيُبِيدَ خَضْرَاءَنَا، وَلَا يُبْقِي مِنَّا بَاقِيَةً، وَالْآنَ الرَّأْيُ أَنْ نَعْمَلَ فِي خَلْعِ الْمُعْتَزِّ وَالْمُؤَيَّدِ.
فَجَدَّ الْأَتْرَاكُ فِي ذَلِكَ، وَأَلَحُّوا عَلَى الْمُنْتَصِرِ، وَقَالُوا: نَخْلَعُهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَنُبَايِعُ لِابْنِكَ عَبْدِ الْوَهَّابِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَهُمْ، وَأَحْضَرَ الْمُعْتَزَّ وَالْمُؤَيَّدَ، بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ خِلَافَتِهِ، وَجُعِلَا فِي دَارٍ، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ لِلْمُؤَيَّدِ: يَا أَخِي، (قَدْ أُحْضِرْنَا لِلْخَلْعِ) ، فَقَالَ: لَا أَظُنُّ يَفْعَلُ ذَلِكَ.
فَبَيْنَمَا هَمَا كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ الرُّسُلُ بِالْخَلْعِ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، فَقَالَ الْمُعْتَزُّ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ، فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقَتْلَ فَشَأْنُكُمْ، فَأَعْلَمُوا الْمُنْتَصِرَ، ثُمَّ عَادُوا بِغِلْظَةٍ وَشِدَّةٍ، وَأَخَذُوا الْمُعْتَزَّ بِعُنْفٍ، وَأَدْخَلُوهُ بَيْتًا، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ، فَلَمَّا رَأَى الْمُؤَيَّدُ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ بِجُرْأَةٍ وَاستِطَالَةٍ: مَا هَذَا يَا كِلَابُ؟ قَدْ ضَرَيْتُمْ عَلَى دِمَائِنَا، تَثِبُونَ عَلَى مَوْلَاكُمْ هَذَا الْوُثُوبَ، دَعُونِي وَإِيَّاهُ حَتَّى أُكَلِّمَهُ! فَسَكَتُوا عَنْهُ، وَأَذِنُوا لَهُ فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ بَعْدَ إِذْنٍ مِنَ الْمُنْتَصِرِ بِذَلِكَ.
فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمُؤَيَّدُ، وَقَالَ: يَا جَاهِلُ تَرَاهُمْ نَالُوا مِنْ أَبِيكَ - وَهُوَ هُوَ - مَا نَالُوا، ثُمَّ تَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ؟ اخْلَعْ وَيْلَكَ، لَا تُرَاجِعْهُمْ! فَقَالَ: وَكَيْفَ أَخْلَعُ وَقَدْ جَرَى فِي الْآفَاقِ؟ فَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ قَتَلَ أَبَاكَ، وَهُوَ يَقْتُلُكَ، وَإِنْ كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ أَنْ تَلِيَ لَتَلِيَنَّ. فَقَالَ: أَفْعَلُ.
فَخَرَجَ الْمُؤَيَّدُ وَقَالَ: قَدْ أَجَابَ إِلَى الْخَلْعِ، فَمَضَوْا، وَأَعْلَمُوا الْمُنْتَصِرَ، وَعَادُوا فَشَكَرُوهُ، وَمَعَهُمْ كَاتِبٌ، فَجَلَسَ، فَقَالَ لِلْمُعْتَزِّ: اكْتُبْ بِخَطِّكَ خَلْعَكَ! فَامْتَنَعَ، فَقَالَ الْمُؤَيَّدُ لِلْكَاتِبِ: هَاتِ قِرْطَاسَكَ! أَمْلِلْ عَلَيَّ مَا شِئْتَ، فَأَمْلَى عَلَيْهِ كِتَابًا إِلَى الْمُنْتَصِرِ يُعْلِمُهُ فِيهِ ضَعْفَهُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَأَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَأْثَمَ الْمُتَوَكِّلُ بِسَبَبِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لَهُ، وَيَسْأَلُهُ الْخَلْعَ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ قَدْ خَلَعَ نَفْسَهَ، وَأَحَلَّ النَّاسَ مِنْ بَيْعَتِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute