وَانْصَرَفَ الطَّبِيبُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَقَدْ وَجَدَ حَرَارَةً، فَدَعَا تِلْمِيذًا لِيَفْصِدَهُ، وَوَضَعَ مَبَاضِعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِيَسْتَخِيرَ أَجْوَدَهَا، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْمِبْضَعَ الْمَسْمُومَ، وَقَدْ نَسِيَهُ الطَّبِيبُ، فَفَصَدَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ إِلَيْهِ نَظَرَ إِلَيْهِ فَعَرَفَهُ، فَأَيْقَنَ بِالْهَلَاكِ، وَوَصَّى مِنْ سَاعَتِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ وَجَدَ فِي رَأْسِهِ عِلَّةً، فَقَطَرَ ابْنُ الطَّيْفُورِيِّ فِي أُذُنِهِ دُهْنًا، فَوَرِمَ رَأْسُهُ، فَمَاتَ.
وَقِيلَ: بَلْ سَمَّهُ ابْنُ الطَّيْفُورِيِّ فِي مَحَاجِمهِ فَمَاتَ.
وَقِيلَ: كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ حِينَ أَفَضْتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ إِلَى أَنْ مَاتَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، مُدَّةَ شِيرَوَيْهِ بْنِ كِسْرَى، قَاتِلِ أَبِيهِ، يَقُولُهُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُنْتَصِرَ كَانَ نَائِمًا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَانْتَبَهَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَنْتَحِبُ، فَسَمِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْبَازِيَارُ، فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ، فَقَالَ: كُنْتُ نَائِمًا، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ جَاءَنِي، فَقَالَ: وَيَحَكَ يَا مُحَمَّدُ! قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي، وَغَبَنْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لَا مُتِّعْتَ بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى النَّارِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ رُؤْيَا، وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ، بَلْ يُعَمِّرُكَ اللَّهُ، وَيَسُرُّكَ، ادْعُ بِالنَّبِيذِ وَخُذْ فِي اللَّهْوِ لَا تَعْبَأْ بِهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَزَلْ مُنْكَسِرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَكَرَ أَنَّ الْمُنْتَصِرَ كَانَ شَاوَرَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَذَاهِبِهِ، وَحَكَى عَنْهُ أُمُورًا قَبِيحَةً كَرِهْتُ ذِكْرَهَا، فَأَشَارُوا بِقَتْلِهِ، فَكَانَ كَمَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَقِيلَ: كَانَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَامَرَّا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ:
وَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَخَذْتُهَا ... وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَصِيرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute