ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى قُرْبِ الْأَنْبَارِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْقُوَّادُ أَنْ يُنْزِلَ عَسْكَرَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ بِالْقَطِيعَةِ لِسِعَتِهِ وَحَصَانَتِهِ، وَيَسِيرَ هُوَ وَجُنْدُهُ جَرِيدَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى نَقْلِ عَسْكَرِهِ، (وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى عَسْكَرِهِ) وَعَاوَدَ عَدُّوَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ وَسَارَ مِنْ مَكَانِهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ الْمَكَانَ الَّذِي يُرِيدُ النُّزُولَ بِهِ أَمَرَ النَّاسَ بِالنُّزُولِ، فَأَتَتِ الْأَتْرَاكُ جَوَاسِيسَهُمْ، وَأَعْلَمُوهُمْ بِمَسِيرِهِ وَضِيقِ مَكَانِهِ، فَأَتَاهُمُ الْأَتْرَاكُ وَالنَّاسُ يَحُطُّونَ أَثْقَالَهُمْ، فَثَارَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ وَقَاتَلُوهُمْ فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ قَتْلَى مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَحَمَلَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمْ فَكَشَفُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَرِقَ مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَكَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ كَمَّنُوا لَهُمْ كَمِينًا، فَخَرَجَ الْكَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْعَسْكَرِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ إِلَّا الْفُرَاتُ، وَغَرِقَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ.
وَأَمَّا الْفُرْسَانُ فَهَرَبُوا لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَالْقُوَّادُ يُنَادُونَهُمْ: الرَّجْعَةَ، فَلَمْ يَرْجِعْ أَحَدٌ، فَخَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَرَجَعُوا يَحْمُونَ أَصْحَابَهُمْ، وَأَخَذَ الْأَتْرَاكُ عَسْكَرَ الْحُسَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخِلَعِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَسَلَّمَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ سِلَاحٍ فِي السُّفُنِ، لِأَنَّ الْمَلَّاحِينَ حَذَرُوا السُّفُنَ، فَسَلَّمَ مَا مَعَهُمْ مِنْ سِلَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَصَلَ الْمُنْهَزِمُونَ إِلَى الْيَاسِرِيَّةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَقِيَ الْحُسَيْنَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّنْ ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّضَ وَجْهَكَ، أُصْعِدْتَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَانْصَرَفْتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ! فَتَغَافَلَ عَنْهُ.
وَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُ الْهَزِيمَةِ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَنَعَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ دُخُولِ بَغْدَادَ، وَنَادَى: مَنْ وَجَدْنَاهُ بِبَغْدَاذَ مِنْ عَسْكَرِ الْحُسَيْنِ، بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ضُرِبَ ثَلَاثَمِائَةَ سَوْطٍ، وَأُسْقِطَ مِنَ الدِّيوَانِ، فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الْحُسَيْنِ بِالْيَاسِرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ [ابْنُ] عَبْدِ اللَّهِ جُنْدًا آخَرَ، وَأَعْطَاهُمُ الْأَرْزَاقَ، وَأَمَرَ بَعْضَ النَّاسِ لِيَعْلَمَ مَنْ قُتِلَ، وَمَنْ غَرِقَ، وَمَنْ سَلِمَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute