بِهِمْ طُرُقُ الْمَدِينَةِ، فَبَلَغُوا أَبْعَدَ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَأَحْرَقُوا، وَأَسَرُوا، وَتَرَاجَعَ الزَّنْجُ عَلَيْهِمْ، وَخَرَجَ الْكُمَنَاءُ مِنْ مَوَاضِعَ يَعْرِفُونَهَا وَيَجْهَلُهَا الْآخَرُونَ، فَتَحَيَّرُوا، وَدَافَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا نَحْوَ دِجْلَةَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَأَخَذَ الزَّنْجُ أَسْلَابَهُمْ.
وَرَجَعَ الْمُوَفَّقُ إِلَى مَدِينَتِهِ، وَأَمَرَ بِجَمْعِهِمْ، فَلَامَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ مِنْ رَأْيِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَأَمَرَ بِإِحْصَاءِ مَنْ فُقِدَ، وَأَقَرَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ رِزْقٍ عَلَى أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَزَادَ فِي صِحَّةِ نِيَّاتِهِمْ.
ذِكْرُ الْوَقْعَةِ بَيْنَ الْمُعْتَضِدِ وَالْأَعْرَابِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ - وَهُوَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ - بِقَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْمِيرَةَ إِلَى عَسْكَرِ الْخَبِيثِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَأَسَرَ الْبَاقِينَ، وَغَنِمَ مَا كَانَ مَعَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ مَنْ أَقَامَ بِهَا لِأَجْلِ قَطْعِ الْمِيرَةِ.
وَسَيَّرَ الْمُوَفَّقُ رَشِيقًا مَوْلَى أَبِي الْعَبَّاسِ، فَأَوْقَعَ بِقَوْمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ كَانُوا يَجْلِبُونَ الْمِيرَةَ إِلَى الْخَبِيثِ، فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، فَحَمَلَ الْأَسْرَى، وَالرُّءُوسَ إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، فَأَمَرَ بِهِمُ الْمُوَفَّقُ، فَوَقَفُوا بِإِزَاءِ عَسْكَرِ الزَّنْجِ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُسْفِرُ بَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَالْأَعْرَابِ بِجَلْبِ الْمِيرَةِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَأُلْقِيَ فِي عَسْكَرِ الْخَبِيثِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْأُسَارَى، وَانْقَطَعَتِ الْمِيرَةُ بِذَلِكَ عَنِ الْخَبِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَضَرَّ بِهِمُ الْحِصَارُ، وَأَضْعَفَ أَبْدَانَهُمْ، فَكَانَ يَسْأَلُ الْأَسِيرَ، وَالْمُسْتَأْمِنَ عَنْ عَهْدِهِ بِالْخُبْزِ فَيَقُولُ: عَهْدِي بِهِ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ.
فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هَذَا الْحَالِ رَأَى الْمُوَفَّقُ أَنْ يُتَابِعَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبَ لِيَزِيدَهُمْ ضُرًّا وَجَهْدًا، فَكَثُرَ الْمُسْتَأْمِنُونَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخَبِيثِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْقُرَى وَالْأَنْهَارِ الْبَعِيدَةِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقَ، فَأَمَرَ جَمَاعَةً مِنْ قُوَّادِ غِلْمَانِهِ السُّودَانِ بِقَصْدِ تِلْكَ الْمَوْضِعِ وَدَعْوَةِ مَنْ بِهَا إِلَيْهِ، فَمَنْ أَبَى قَتَلُوهُ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute