وَنَظَرَ الْمُوَفَّقُ فَرَأَى أَنَّ نُزُولَهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ حِيلَةَ الزَّنْجِ وَصَاحِبِهِمْ، وَانْتِهَازِ فُرْصَةٍ، لِكَثْرَةِ الْأَدْغَالِ، وَصُعُوبَةِ الْمَسَالِكِ، وَأَنَّ الزَّنْجَ أَعْرَفُ بِتِلْكَ الْمَضَايِقِ، وَأَجْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَصْدَهُ إِلَى هَدْمِ سُورِ الْفَاسِقِ، وَتَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالْمَسَالِكِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِ السُّورِ مِنْ نَاحِيَةِ النَّهْرِ الْمَعْرُوفِ بِمَنْكِيٍّ، وَبَاشَرَ الْحَرْبَ بِنَفْسِهِ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، وَكَثُرَ الْقَتْلُ، وَالْجِرَاحُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَدَامَ ذَلِكَ أَيَّامًا عِدَّةً.
وَكَانَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْوُلُوجَ لِقَنْطَرَتَيْنِ كَانَتَا فِي نَهْرِ مَنْكِيٍّ، كَانَ الزَّنْجُ يَعْبُرُونَ عَلَيْهِمَا وَقْتَ الْقِتَالِ، فَيَأْتُونَ أَصْحَابَ الْمُوَفَّقِ مِنْ وَرَاءِ ظُهُورِهِمْ فَيَنَالُونَ مِنْهُمْ، فَعَمِلَ الْحِيلَةَ فِي إِزَالَتِهِمَا، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِقَصْدِهِمَا عِنْدَ اشْتِغَالِ الزَّنْجِ، وَغَفْلَتِهِمْ عَنْ حِرَاسَتِهِمَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِدُّوا الْفُئُوسَ، وَالْمَنَاشِيرَ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْآلَاتِ، فَقَصَدُوا الْقَنْطَرَةَ الْأُولَى نِصْفَ النَّهَارِ، فَأَتَاهُمُ الزَّنْجُ لِمَنْعِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ الزَّنْجُ، وَكَانَ مُقَدِّمَهُمْ أَبُو النَّدَى، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي صَدْرِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ الْقَنْطَرَتَيْنِ وَرَجَعُوا.
وَأَلَحَّ الْمُوَفَّقُ عَلَى الْخَبِيثِ بِالْحَرْبِ، وَهَدَمَ أَصْحَابُهُ مِنَ السُّورِ مَا أَمْكَنَهُمْ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَقَاتَلُوا فِيهَا، وَانْتَهَوْا إِلَى دَارَيِ ابْنِ سَمْعَانَ وَسُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، فَهَدَمُوهُمَا وَنَهَبُوا مَا فِيهِمَا، وَانْتَهَوْا إِلَى سُوَيْقَةٍ لِلْخَبِيثِ، سَمَّاهَا الْمَيْمُونَةَ، فَهُدِمَتْ، وَأُخْرِبَتْ، وَهَدَمُوا دَارَ الْجُبَّائِيِّ، وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَزَائِنِ الْفَاسِقِ، وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْجَامِعِ لِيَهْدِمُوهُ، فَاشْتَدَّتْ مُحَامَاةُ الزَّنْجِ عَنْهُ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ خَلُصَ مَعَ الْخَبِيثِ نُخْبَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَرْبَابِ الْبَصَائِرِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُقْتَلُ، أَوْ يُجْرَحُ، فَيَجْذِبُهُ الَّذِي إِلَى جَنْبِهِ وَيَقِفُ مَكَانَهُ.
فَلَمَّا رَأَى الْمُوَفَّقُ ذَلِكَ أَمَرَ أَبَا الْعَبَّاسِ بِقَصْدِ الْجَامِعِ مِنْ أَحَدِ أَرْكَانِهِ بِشُجْعَانِ أَصْحَابِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِمُ الْفَعَلَةَ لِلْهَدْمِ، وَنَصَبَ السَّلَالِيمَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَوَصَلُوا إِلَيْهِ، فَهَدَمُوهُ، فَأُخِذَ مِنْبَرُهُ، فَأُتِيَ بِهِ الْمُوَفَّقُ، ثُمَّ عَادَ الْمُوَفَّقُ لِهَدْمِ السُّورِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute