فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ: إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي، وَلَمْ تَغْضَبْ، قُلْتُ لَكَ مَا عِنْدِي. قَالَ لَهُ الْمُعِزُّ: قُلْ وَأَنْتَ آمِنٌ، قَالَ: بَعَثَنِي إِلَيْكَ الْمَلِكُ ذَلِكَ الْعَامَ، فَرَأَيْتُ مِنْ عَظَمَتِكَ فِي عَيْنِي وَكَثْرَةِ أَصْحَابِكَ مَا كِدْتُ أَمُوتُ مِنْهُ، وَوَصَلْتُ إِلَى قَصْرِكَ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ نُورًا عَظِيمًا غَطَّى بَصَرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْكَ، فَرَأَيْتُكَ عَلَى سَرِيرِكَ، فَظَنَنْتُكَ خَالِقًا، فَلَوْ قُلْتَ لِي إِنَّكَ تَعْرُجُ إِلَى السَّمَاءِ لَتَحَقَّقْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَيْكَ الْآنَ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، أَشْرَفْتُ عَلَى مَدِينَتِكَ، فَكَانَتْ فِي عَيْنِي سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا وَجَدْتُ مِنَ الْمَهَابَةِ مَا وَجَدْتُهُ ذَلِكَ الْعَامَ، فَقُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مُقْبِلًا، وَإِنَّهُ الْآنَ بِضِدِّ مَا كَانَ عَلَيْهِ.
فَأَطْرَقَ الْمُعِزُّ وَخَرَجَ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَخَذَتِ الْمُعِزَّ الْحُمَّى لِشِدَّةِ مَا وَجَدَ، وَاتَّصَلَ مَرَضُهُ حَتَّى مَاتَ.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، مِنْهَا: مُقَامُهُ بِمِصْرَ، وَالْبَاقِي بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ الْعَلَوِيِّينَ مَلَكَ مِصْرَ وَخَرَجَ إِلَيْهَا، وَكَانَ مُغْرًى بِالنُّجُومِ، وَيَعْمَلُ بِأَقْوَالِ الْمُنَجِّمِينَ. قَالَ لَهُ مُنَجِّمُهُ: إِنَّ عَلَيْهِ قَطْعًا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِعَمَلِ سِرْدَابٍ يَخْتَفِي فِيهِ إِلَى أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ الْوَقْتُ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ وَأَحْضَرَ قُوَّادَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَهْدًا أَنَا مَاضٍ إِلَيْهِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمُ ابْنِي نِزَارًا، يَعْنِي الْعَزِيزَ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
وَنَزَلَ السِّرْدَابَ، فَكَانَ أَحَدُ الْمَغَارِبَةِ إِذَا رَأَى سَحَابًا نَزَلَ وَأَوْمَأَ بِالسَّلَامِ إِلَيْهِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْمُعِزَّ فِيهِ. فَغَابَ سَنَةً ثُمَّ ظَهَرَ، وَبَقِيَ مُدَيْدَةً، وَمَرِضَ وَتُوُفِّيَ، فَسَتَرَ ابْنُهُ الْعَزِيزُ مَوْتَهُ إِلَى عِيدِ النَّحْرِ مِنَ السَّنَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ وَخَطَبَهُمْ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ، وَعَزَّى بِأَبِيهِ.
وَكَانَ الْمُعِزُّ عَالِمًا، فَاضِلًا، جَوَّادًا شُجَاعًا، جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَبِيهِ مِنْ حُسْنِ السِّيرَةِ، وَإِنْصَافِ الرَّعِيَّةِ، وَسَتْرِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ، إِلَّا عَنِ الْخَاصَّةِ، ثُمَّ أَظْهَرُهُ، وَأَمَرَ الدُّعَاةَ بِإِظْهَارِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِيهِ إِلَى حَدٍّ يُذَمُّ بِهِ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْعَزِيزُ فِي الْمُلْكِ أَطَاعَهُ الْعَسْكَرُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ هُوَ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ مُنْذُ مَاتَ أَبُوهُ إِلَى أَنْ أَظْهَرَهُ، ثُمَّ سَيَّرَ إِلَى الْغَرْبِ دَنَانِيرَ عَلَيْهَا اسْمُهُ، فُرِّقَتْ فِي النَّاسِ، وَأَقَرَّ يُوسُفُ بُلُكِّينُ عَلَى وِلَايَةِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا كَانَ أَبُوهُ اسْتَعْمِلْ عَلَيْهِ غَيْرَ يُوسُفَ، وَهِيَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute