ثُمَّ أَتَى بَابَكَ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ، فَرَأَى سِلَاحَهُ تَامًّا مَا عَدَا وَتَرَيْنِ لِلْقَوْسِ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يَسْتَظْهِرُوا بِهِمَا، فَلَمْ يَرَهُمَا بَابَكُ مَعَهُ فَلَمْ يُجِزْ عَلَى اسْمِهِ وَقَالَ لَهُ: هَلُمَّ كُلَّ مَا يَلْزَمُكَ. فَذَكَرَ كِسْرَى الْوَتَرَيْنِ فَتَعَلَّقَهُمَا، ثُمَّ نَادَى مُنَادِي بَابَكَ وَقَالَ: لِلْكَمِيِّ السَّيِّدِ، سَيِّدَةِ الْكُمَاةِ، أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَجَازَ عَلَى اسْمِهِ. فَلَمَّا قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ حَضَرَ عِنْدَ كِسْرَى يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ غِلْظَتِهِ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَمْرَهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِمَا فَعَلَ. فَقَالَ كِسْرَى: مَا غَلُظَ عَلَيْنَا أَمْرٌ نُرِيدُ بِهِ إِصْلَاحَ دَوْلَتِنَا.
وَمِنْ كَلَامِ كِسْرَى: الشُّكْرُ وَالنِّعْمَةُ كِفَّتَانِ كَكِفَّتَيِ الْمِيزَانِ، أَيُّهُمَا رَجَحَ بِصَاحِبِهِ احْتَاجَ الْأَخَفَّ، إِلَّا أَنْ يُزَادَ فِيهِ حَتَّى يُعَادِلَ صَاحِبَهُ، فَإِذَا كَانَتِ النِّعَمُ كَثِيرَةً وَالشُّكْرُ قَلِيلًا انْقَطَعَ الْحَمْدُ، فَكَثِيرُ النِّعَمِ يَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الشُّكْرِ، وَكُلَّمَا زِيدَ فِي الشُّكْرِ ازْدَادَتِ النِّعَمُ وَجَاوَزَتْهُ، وَنَظَرْتُ فِي الشُّكْرِ فَوَجَدْتُ بَعْضَهُ بِالْقَوْلِ وَبَعْضَهُ بِالْفِعْلِ، وَنَظَرْتُ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ فَوَجَدْتُهُ الشَّيْءَ الَّذِي أَقَامَ بِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَرْسَى بِهِ الْجِبَالَ وَأَجْرَى بِهِ الْأَنْهَارَ وَبَرَأَ بِهِ الْبَرِيَّةَ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ، فَلَزِمْتُهُ.
وَرَأَيْتُ ثَمَرَةَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ عِمَارَةَ الْبُلْدَانِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْحَيَاةِ لِلنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ وَجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ. وَلَمَّا نَظَرْتُ فِي ذَلِكَ وَجَدْتُ الْمُقَاتِلَةَ أُجَرَاءَ لِأَهْلِ الْعِمَارَةِ، وَأَهْلَ الْعِمَارَةِ أُجَرَاءَ لِلْمُقَاتِلَةِ، فَأَمَّا الْمُقَاتِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجُورَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَسُكَّانِ الْبُلْدَانِ لِمُدَافَعَتِهِمْ عَنْهُمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَحَقَّ عَلَى أَهْلِ الْعِمَارَةِ أَنْ يُوَفُّوهُمْ أُجُورَهُمْ، فَإِنَّ الْعِمَارَةَ وَالْأَمْنَ وَالسَّلَامَةَ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِمْ.
وَرَأَيْتُ الْمُقَاتِلَةَ لَا يَتِمُّ لَهُمُ الْمُقَامُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَتَثْمِيرُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ إِلَّا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَالْعِمَارَةِ، فَأَخَذْتُ لِلْمُقَاتِلَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا يَقُومُ بِأَوْدِهِمْ وَتَرَكْتُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مِنْ مُسْتَغَلَّاتِهِمْ مَا يَقُومُ بِمَؤُونَتِهِمْ وَعِمَارَتِهِمْ وَلَمْ أُجْحِفْ بِوَاحِدٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَأَيْتُ الْمُقَاتِلَةَ وَأَهْلَ الْخَرَاجِ كَالْعَيْنَيْنِ الْمُبْصِرَتَيْنِ وَالْيَدَيْنِ الْمُتَسَاعِدَتَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute