للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَوَاقِعَهَا فَزَالَ كُلُّ مَا وُضِعَ عَلَيْهَا، وَإِنَّا نَحْسِبُ لَكَ حِسَابًا تَضَعُ عَلَيْهِ بُنْيَانَكَ فَلَا يَزُولُ، فَحَسَبُوا وَأَمَرُوهُ بِالْبِنَاءِ، فَبَنَى دِجْلَةَ الْعَوْرَاءَ فِي ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا جَلِيلَةً حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ لَهُمْ: أَجْلِسُ عَلَى سُورِهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَجَلَسَ فِي أَسَاوِرَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ هُنَاكَ انْتَسَفَتْ دِجْلَةُ الْبُنْيَانَ مِنْ تَحْتِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِآخِرِ رَمَقٍ. فَلَمَّا أَخْرَجُوهُ جَمَعَ كُهَّانَهُ وَسُحَّارَهُ وَمُنَجِّمِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَقَالَ: قَرَّبْتُكُمْ وَأَجْرَيْتُ عَلَيْكُمُ الْأَرْزَاقَ ثُمَّ أَنْتُمْ تَلْعَبُونَ بِي! فَقَالُوا: أَيُّهَا الْمَلِكُ أَخْطَأْنَا كَمَا أَخْطَأَ مَنْ قَبْلَنَا. ثُمَّ حَسَبُوا لَهُ وَبَنَاهُ وَفَرَغَ مِنْهُ وَأَمَرُوهُ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ، فَخَافَ فَرَكِبَ فَرَسًا وَسَارَ عَلَى الْبِنَاءِ فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ انْتَسَفَتْهُ دِجْلَةُ فَلَمْ يُدْرَكْ إِلَّا بِآخِرِ رَمَقٍ، فَدَعَاهُمْ وَقَالَ: لَأَقْتُلَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَوْ لَتَصْدُقُونِي. فَصَدَقُوهُ الْأَمْرَ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ هَلَّا بَيَّنْتُمْ لِي فَأَرَى فِيهِ رَأْيِي؟ قَالُوا: مَنَعَنَا الْخَوْفُ. فَتَرَكَهُمْ وَلَهَا عَنْ دِجْلَةَ حِينَ غَلَبَتْهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْبَطَائِحِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا عَامِرَةً.

فَلَمَّا جَاءَتْ سَنَةُ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ إِلَى كِسْرَى، فَزَادَتِ الْفُرَاتُ وَالدِّجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُرَ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا مِثْلَهَا، فَانْبَثَقَتِ الْبُثُوقُ وَانْتَسَفَتْ مَا كَانَ بَنَاهُ كِسْرَى وَاجْتَهَدَ أَنْ يَكْسِرَهَا فَغَلَبَهُ الْمَاءُ، كَمَا بَيَّنَّا، وَمَالَ إِلَى مَوْضِعِ الْبَطَائِحِ فَطَمَا الْمَاءُ عَلَى الزُّرُوعِ وَغَرِقَ عِدَّةُ طَسَاسِيجَ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْعَرَبُ أَرْضَ الْفُرْسِ، وَشَغَلَتْهُمْ عَنْ عَمَلِهَا بِالْحُرُوبِ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ. فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْحَجَّاجِ تَفَجَّرَتْ بُثُوقٌ أُخَرُ فَلَمْ يَسُدَّهَا مُضَارَّةً لِلدَّهَاقِينِ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِمُمَالَأَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَعَظُمَ الْخَطْبُ فِيهَا وَعَجِزَ النَّاسُ عَنْ عَمَلِهَا، فَبَقِيَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْآنَ.

وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَى كِسْرَى مَلَكًا وَهُوَ فِي بَيْتِ إِيوَانِهِ الَّذِي لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُعْهُ إِلَّا بِهِ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ فِي يَدِهِ عَصًا بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَتِهِ الَّتِي يُقِيلُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى أَتُسْلِمُ أَوْ أَكْسِرُ هَذِهِ الْعَصَا؟ فَقَالَ: بِهِلْ بِهِلْ! وَانْصَرَفَ عَنْهُ فَدَعَا بِحُرَّاسِهِ وَحُجَّابِهِ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَنْ أَدْخَلَ هَذَا الرَّجُلَ؟ فَقَالُوا: مَا دَخَلَ عَلَيْنَا أَحَدٌ وَلَا رَأَيْنَاهُ! حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَتَاهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ أَوْ أَكْسِرُ الْعَصَا؟ فَقَالَ: بِهِلْ بِهِلْ! وَتَغَيَّظَ عَلَى حُجَّابِهِ وَحُرَّاسِهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ

<<  <  ج: ص:  >  >>