كَانَ سُفَهَاءُ بَكْرٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَى عُقَلَائِهَا وَغَلَبُوهُمْ عَلَى الْأَمْرِ وَأَكَلَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ، فَنَظَرَ الْعُقَلَاءُ فِي أَمْرِهِمْ فَرَأَوْا أَنْ يُمَلِّكُوا عَلَيْهِمْ مَلِكًا يَأْخُذُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ. فَنَهَاهُمُ الْعَرَبُ وَعَرَفُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ بِأَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ يُطِيعُهُ قَوْمٌ وَيُخَالِفُهُ آخَرُونَ، فَسَارُوا إِلَى بَعْضِ تَبَابِعَةِ الْيَمَنِ، وَكَانُوا لِلْعَرَبِ بِمَنْزِلَةِ الْخُلَفَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكَ عَلَيْهِمْ مَلِكًا، فَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ حُجْرَ بْنَ عَمْرٍو آكِلَ الْمُرَارِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِبَطْنِ عَاقِلٍ وَأَغَارَ بِبَكْرٍ فَانْتَزَعَ عَامَّةَ مَا كَانَ بِأَيْدِي اللَّخْمِيِّينَ مِنْ أَرْضِ بَكْرٍ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ فَدُفِنَ بِبَطْنِ عَاقِلٍ.
فَلَمَّا مَاتَ صَارَ عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ آكِلُ الْمُرَارِ، وَهُوَ الْمَقْصُورُ، مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَقْصُورُ لِأَنَّهُ قَصَرَ عَلَى مُلْكِ أَبِيهِ، وَكَانَ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ الْجَوْنُ، عَلَى الْيَمَامَةِ. فَلَمَّا مَاتَ عَمْرٌو مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْمُلْكِ بَعِيدَ الصَّوْتِ، فَلَمَّا مَلَكَ قُبَاذُ بْنُ فَيْرُوزَ الْفُرْسَ خَرَجَ فِي أَيَّامِهِ مَزْدَكُ فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَأَجَابَهُ قُبَاذُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَاءِ السَّمَاءِ عَامِلًا لِلْأَكَاسِرَةِ عَلَى الْحِيرَةِ وَنَوَاحِيهَا، فَدَعَاهُ قُبَاذُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ، فَامْتَنَعَ، فَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى ذَلِكَ فَأَجَابَهُ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْحِيرَةِ وَطَرَدَ الْمُنْذِرَ عَنْ مَمْلَكَتِهِ.
وَقِيلَ فِي تَمَلُّكِهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ أَيَّامَ قُبَاذَ.
فَبَقُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَلَكَ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانُ بْنُ قُبَاذَ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَتَلَ مَزْدَكَ وَأَصْحَابَهُ وَأَعَادَ الْمُنْذِرَ بْنَ مَاءِ السَّمَاءِ إِلَى وِلَايَةِ الْحِيرَةِ وَطَلَبَ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو، وَكَانَ بِالْأَنْبَارِ، وَبِهَا مَنْزِلُهُ، فَهَرَبَ بِأَوْلَادِهِ وَمَالِهِ وَهَجَائِنِهِ، وَتَبِعَهُ الْمُنْذِرُ بِالْخَيْلِ مِنْ تَغْلِبَ وَإِيَادٍ وَبَهْرَاءَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ كَلْبٍ فَنَجَا، وَانْتَهَبُوا مَالَهُ وَهَجَائِنَهُ، وَأَخَذَتْ تَغْلِبُ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا مِنْ بَنِي آكِلِ الْمُرَارِ، فِيهِمْ عَمْرٌو وَمَالِكٌ ابْنَا الْحَارِثِ، فَقَدِمُوا بِهِمْ عَلَى الْمُنْذِرِ، فَقَتَلَهُمْ فِي دِيَارِ بَنِي مَرِينَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute