فَلَمَّا أَشْرَفَ أَوَائِلُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَسْكَرِ طُغْتِكِينَ انْهَزَمُوا وَخَلَّوْا ثِقَلَهُمْ وَرِحَالَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ لِلْفِرِنْجِ، فَغَنِمُوا، وَقَوُوا بِهِ، وَزَادَ فِي تَجَمُّلِهِمْ.
وَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حِمْصَ، عَلَى أَقْبَحِ حَالٍ مِنَ التَّقَطُّعِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ حَرْبٌ، وَقَصَدَ السَّرَدَانِيُّ إِلَى عِرْقَةَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا طَلَبَ مَنْ كَانَ بِهَا الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى نُفُوسِهِمْ، وَتَسَلَّمَ الْحِصْنَ، فَلَمَّا خَرَجَ مَنْ فِيهِ قَبَضَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ: لَا أُطْلِقُهُ إِلَّا بِإِطْلَاقِ فُلَانٍ، وَهُوَ أَسِيرٌ كَانَ بِدِمَشْقَ مِنَ الْفِرِنْجِ، مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ، فَفُودِيَ بِهِ وَأُطْلِقَا مَعًا.
وَلَمَّا وَصَلَ طُغْتِكِينُ إِلَى دِمَشْقَ، بَعْدَ الْهَزِيمَةِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْقُدْسِ يَقُولُ لَهُ: لَا تَظُنَّ أَنَّنِي أَنْقُضُ الْهُدْنَةَ لِلَّذِي تَمَّ عَلَيْكَ مِنَ الْهَزِيمَةِ، فَالْمُلُوكُ يَنَالُهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا نَالَكَ، ثُمَّ تَعُودُ أُمُورُهُمْ إِلَى الِانْتِظَامِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَكَانَ طُغْتِكِينُ خَائِفًا أَنْ يَقْصِدَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْكَسْرَةِ فَيَنَالَ مِنْ بَلَدِهِ كُلَّ مَا أَرَادَ.
ذِكْرُ صُلْحِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ بِبَغْدَاذَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ، اصْطَلَحَ عَامَّةُ بَغْدَاذَ السَّنَةُ وَالشِّيعَةُ، وَكَانَ الشَّرُّ مِنْهُمْ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ، وَقَدِ اجْتَهَدَ الْخُلَفَاءُ، وَالسَّلَاطِينُ، وَالشِّحَنُ فِي إِصْلَاحِ الْحَالِ، فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَكَانَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا لَمَّا قَتَلَ مَلِكَ الْعَرَبِ صَدَقَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، خَافَ الشِّيعَةُ بِبَغْدَاذَ - أَهْلُ الْكَرْخِ وَغَيْرُهُمْ - لِأَنَّ صَدَقَةَ كَانَ يَتَشَيَّعُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَشَنَّعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ نَالَهُمْ غَمٌّ وَهَمٌّ لِقَتْلِهِ، فَخَافَ الشِّيعَةُ، وَأَغْضَوْا عَلَى سَمَاعِ هَذَا، وَلَمْ يَزَالُوا خَائِفِينَ إِلَى شَعْبَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ شَعْبَانُ تَجَهَّزَ السُّنَّةُ لِزِيَارَةِ قَبْرِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانُوا قَدْ تَرَكُوا ذَلِكَ سِنِينَ كَثِيرَةً وَمُنِعُوا مِنْهُ لِتَنْقَطِعَ الْفِتَنُ الْحَادِثَةُ بِسَبَبِهِ.
فَلَمَّا تَجَهَّزُوا لِلْمَسِيرِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا طَرِيقَهُمْ فِي الْكَرْخِ، فَأَظْهَرُوا ذَلِكَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute