بَعْضًا، فَشُغِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ دُفِنَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَامَ بَعْدَهُ أَخٌ لَهُ صَغِيرٌ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ مَمْلُوكٌ لِلْبُرْسُقِيِّ يُعْرَفُ بِالْجَاوِلِيِّ، وَدَبَّرَ أَمْرَ الصَّبِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَطْلُبُ أَنْ يُقَرِّرَ الْبِلَادَ عَلَى وَلَدِ الْبُرْسُقِيِّ، وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَانَ الرَّسُولَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، وَصَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ حَاجِبِ الْبُرْسُقِيِّ، فَحَضَرَا دَرَكَاهَ السُّلْطَانَ لِيُخَاطِبَا فِي ذَلِكَ، وَكَانَا يَخَافَانِ جَاوِلِي، وَلَا يَرْضَيَانِ بِطَاعَتِهِ وَالتَّصَرُّفِ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ، فَاجْتَمَعَ صَلَاحُ الدِّينِ، وَنَصِيرُ الدِّينِ جَقَرُ الَّذِي صَارَ نَائِبًا عَنْ أَتَابَكْ عِمَادِ الدِّينِ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ، وَذَكَرَ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ مَا وَرَدَ فِيهِ، وَأَفْشَى إِلَيْهِ سِرَّهُ، فَخَوَّفَهُ نَصِيرُ الدِّينِ مِنْ جَاوِلِي، وَقَبَّحَ عِنْدَهُ طَاعَتَهُ، وَقَرَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاهُ وَأَمْثَالَهُ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَتَى أُجِيبَ إِلَى مَطْلُوبِهِ لَا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ.
وَتَحَدَّثَ مَعَهُ فِي الْمُخَاطَبَةِ فِي وِلَايَةِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، وَضَمِنَ لَهُ الْوِلَايَاتِ وَالْأَقْطَاعَ الْكَثِيرَةَ، وَكَذَلِكَ لِلْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ الشَّهْرَزُورِيِّ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَهُ مَعَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ، وَخَاطَبَاهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، وَضَمِنَا لَهُ كُلَّ مَا أَرَادَهُ، فَوَافَقَهُمَا عَلَى مَا طَلَبَا، وَرَكِبَ هُوَ وَصَلَاحُ الدِّينِ إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ، وَهُوَ حِينَئِذٍ شَرَفُ الدِّينِ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ خَالِدٍ، وَقَالَا لَهُ:
قَدْ عَلِمْتَ أَنْتَ وَالسُّلْطَانُ أَنَّ دِيَارَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ قَدْ تَمَكَّنَ الْفِرِنْجُ مِنْهَا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ بِهَا، فَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَكْثَرِهَا، وَقَدْ أَصْبَحَتْ وِلَايَتُهُمْ مِنْ حُدُودِ مَارِدِينَ إِلَى عَرِيشِ مِصْرَ، مَا عَدَا الْبِلَادَ الْبَاقِيَةَ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ الْبُرْسُقِيُّ مَعَ شَجَاعَتِهِ وَتَجْرِيبِهِ وَانْقِيَادِ الْعَسَاكِرِ إِلَيْهِ، يَكُفُّ بَعْضَ عَادِيَتِهِمْ وَشَرِّهِمْ، فَمُذْ قُتِلَ ازْدَادَ طَمَعُهُمْ، وَهَذَا وَلَدُهُ طِفْلٌ صَغِيرٌ، وَلَا بُدَّ لِلْبِلَادِ مِنْ رَجُلٍ شَهْمٍ شُجَاعٍ، ذِي رَأْيٍ وَتَجْرِبَةٍ، يَذُبُّ عَنْهَا وَيَحْفَظُهَا وَيَحْمِي حَوْزَتَهَا، وَقَدْ أَنْهَيْنَا الْحَالَ لِئَلَّا يَجْرِيَ خَلَلٌ أَوْ وَهْنٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيُخْتَصُّ اللَّوْمُ بِنَا، وَيُقَالُ: أَلَا أَنْهَيْتُمْ إِلَيْنَا جَلِيَّةَ الْحَالِ؟ .
فَرَفَعَ الْوَزِيرُ قَوْلَهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، فَاسْتَحْسَنَهُ، وَشَكَرَهُمَا عَلَيْهِ، وَأَحْضَرَهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute