ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِسَعَادَتِهِ، وَأَيْقَنُوا أَنَّ أَمْرًا هَذَا بِدَايَتُهُ لَعَظِيمٌ.
ثُمَّ سَارَ عَنِ الْجَزِيرَةِ إِلَى نَصِيبِينَ، وَكَانَتْ لِحُسَامِ الدِّينِ تَمْرُتَاشَ صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَلَمَّا نَازَلَهَا سَارَ حُسَامُ الدِّينِ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ دَاوُدَ بْنِ سَقْمَانَ بْنِ أَرْتَقَ، وَهُوَ صَاحِبُ حِصْنِ كِيفَا وَغَيْرِهَا، فَاسْتَنْجَدَهُ عَلَى أَتَابَكْ زَنْكِي، فَوَعَدَ النَّجْدَةَ بِنَفْسِهِ، وَجَمَعَ عَسْكَرَهُ، وَعَادَ تَمْرُتَاشُ إِلَى مَارِدِينَ، وَأَرْسَلَ رِقَاعًا عَلَى أَجْنِحَةِ الطُّيُورِ إِلَى نَصِيبِينَ يَعْرِفُ مَنْ بِهَا مِنَ الْعَسْكَرِ أَنَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ سَائِرَانِ فِي الْعَسْكَرِ الْكَثِيرِ إِلَيْهِمْ، وَإِزَاحَةِ عِمَادِ الدِّينِ عَنْهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ.
فَبَيْنَمَا أَتَالِكُ فِي خَيْمَتِهِ إِذْ سَقَطَ طَائِرٌ عَلَى خَيْمَةٍ تُقَابِلُهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَصِيدَ، فَرَأَى فِيهِ رُقْعَةً، فَقَرَأَهَا، وَعَرَفَ مَا فِيهَا، فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ غَيْرَهَا، يَقُولُ فِيهَا:
إِنَّنِي قَصَدْتُ ابْنَ عَمِّي رُكْنَ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ وَعَدَنِي النُّصْرَةَ وَجَمَعَ الْعَسَاكِرَ، وَمَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْوُصُولِ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَيَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِ الْبَلَدِ هَذِهِ الْمُدَّةَ إِلَى أَنْ يَصِلُوا، وَجَعَلَهَا فِي الطَّائِرِ وَأَرْسَلَهُ، فَدَخَلَ نَصِيبِينَ، فَلَمَّا وَقَفَ مَنْ بِهَا عَلَى الرُّقْعَةِ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَحْفَظُوا الْبَلَدَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الشَّهِيدِ وَصَالَحُوهُ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، فَبَطَلَ عَلَى تَمْرُتَاشَ وَدَاوُدَ مَا كَانَا عَزَمَا عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا يُسْمَعُ.
فَلَمَّا مَلَكَ نَصِيبِينَ سَارَ عَنْهَا إِلَى سِنْجَارَ، فَامْتَنَعَ مَنْ بِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحُوهُ، وَسَلَّمُوا الْبَلَدَ إِلَيْهِ، وَسَيَّرَ مِنْهَا الشِّحَنَ إِلَى الْخَابُورِ، فَمَلَكَهُ جَمِيعَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَرَّانَ وَهِيَ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتِ الرُّهَا وَسَرُوجُ وَالْبِيرَةُ وَتِلْكَ النَّوَاحِي جَمِيعُهَا لِلْفِرِنْجِ، وَأَهْلُ حَرَّانَ مَعَهُمْ فِي ضُرٍّ عَظِيمٍ، وَضِيقٍ شَدِيدٍ ; لِخُلُوِّ الْبِلَادِ مِنْ حَامٍ يَذُبُّ عَنْهَا، وَسُلْطَانٍ يَمْنَعُهَا، فَلَمَّا قَارَبَ حَرَّانَ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَأَطَاعُوهُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا مَلَكَهَا أَرْسَلَ إِلَى جُوسْلِينْ صَاحِبِ الرُّهَا وَتِلْكِ الْبِلَادِ، وَرَاسَلَهُ وَهَادَنَهُ مُدَّةً يَسِيرَةً، وَكَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَتَفَرَّغَ لِإِصْلَاحِ الْبِلَادِ، وَتَجْنِيدِ الْأَجْنَادِ، وَكَانَ أَهَمُّ الْأُمُورِ إِلَيْهِ أَنْ يَعْبُرَ الْفُرَاتَ إِلَى الشَّامِ، وَيَمْلِكَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ، وَأَمِنَ النَّاسُ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مُلْكَ حَلَبَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ عِدَّةِ حَوَادِثَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute