وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يَكْرَهُ قَطْعَ الْخُطْبَةِ لَهُمْ، وَيُرِيدُ بَقَاءَهُمْ خَوْفًا مِنْ نُورِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَخَافُهُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَأْخُذُهَا مِنْهُ، فَكَانَ يُرِيدُ [أَنْ] يَكُونَ الْعَاضِدُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا قَصَدَهُ نُورُ الدِّينِ امْتَنَعَ بِهِ وَبِأَهْلِ مِصْرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اعْتَذَرَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ بِقَطْعِ خُطْبَتِهِ، وَأَلْزَمَهُ إِلْزَامًا لَا فُسْحَةَ لَهُ فِي مُخَالَفَتِهِ، وَكَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ نَائِبُ نُورِ الدِّينِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الْعَاضِدَ مَرِضَ هَذَا الْوَقْتَ مَرَضًا شَدِيدًا، فَلَمَّا عَزَمَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى قَطْعِ خُطْبَتِهِ اسْتَشَارَ أُمَرَاءَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهِ وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي الْمِصْرِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَافَهُمْ إِلَّا أَنَّهُ مَا يُمْكِنُهُ إِلَّا امْتِثَالُ أَمْرِ نُورِ الدِّينِ.
وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ إِنْسَانٌ أَعْجَمِيٌّ يُعْرَفُ بِالْأَمِيرِ الْعَالِمِ، رَأَيْتُهُ أَنَا بِالْمَوْصِلِ، فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْإِحْجَامِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَتَجَاسَرُ [أَنْ] يَخْطُبَ لِلْعَبَّاسِيِّينَ قَالَ: أَنَا أَبْتَدِئُ بِالْخُطْبَةِ لَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الْخَطِيبِ، وَدَعَا لِلْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ الْخُطَبَاءَ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَةَ الْعَاضِدِ وَيَخْطُبُوا لِلْمُسْتَضِيءِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ مِصْرَ، فَفَعَلَ، وَكَانَ الْعَاضِدُ قَدِ اشْتَدَّ مَرَضُهُ فَلَمْ يُعْلِمْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ، وَقَالُوا: إِنْ عُوفِيَ فَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِنْ تُوُفِّيَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَفْجَعَهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَتُوُفِّيَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَعْلَمْ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ صَلَاحُ الدِّينِ لِلْعَزَاءِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْرِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى جَمِيعِ مَا فِيهِ، فَحَفِظَهُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ الَّذِي كَانَ قَدْ رَتَّبَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْعَاضِدِ، فَحُمِلَ الْجَمِيعُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ مِنْ كَثْرَتِهِ يَخْرُجُ عَنِ الْإِحْصَاءِ، وَفِيهِ مِنَ الْأَعْلَاقِ النَّفِيسَةِ وَالْأَشْيَاءِ الْغَرِيبَةِ مَا تَخْلُو الدُّنْيَا عَنْ مِثْلِهِ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَمْ تُوجَدُ عِنْدَ أَحَدٍ غَيْرَهُمْ، فَمِنْهُ الْجَبَلُ الْيَاقُوتُ، وَزْنُهُ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، أَنَا لَا أَشُكُّ، لِأَنَّنِي رَأَيْتُهُ وَوَزَنْتُهُ، وَاللُّؤْلُؤُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ، وَمِنْهُ النِّصَابُ الزُّمُرُّدُ الَّذِي طُولُهُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ فِي عَرْضِ عِقْدٍ كَبِيرٍ، وَوُجِدَ فِيهِ طَبْلٌ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْعَاضِدِ، وَقَدِ احْتَاطُوا عَلَيْهِ بِالْحِفْظِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ ظَنُّوهُ عُمِلَ لِأَجْلِ اللَّعِبِ بِهِ، فَسَخِرُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute