أَنْ يُقْبِلَ بِقُلُوبِنَا إِلَيْهِ، وَيُرِيَنَا الدُّنْيَا حَقِيقَةً، وَيُزَهِّدَنَا فِيهَا، وَيُرَغِّبَنَا فِي الْآخِرَةِ، إِنَّهُ سُمَيْعُ الدُّعَاءِ قَرِيبٌ مِنَ الْإِجَابَةِ.
وَلَمَّا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى بَغْدَادَ بِذَلِكَ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِهَا عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَزُيَّنَتْ بَغْدَادُ وَظَهَرَ مِنَ الْفَرَحِ وَالْجَذَلِ مَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَسُيِّرَتِ الْخِلَعُ مَعَ عِمَادِ الدِّينِ صَنْدَلٍ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَدَمِ الْمَقْتُفَوِيَّةِ وَالْمُقَدَّمِينَ فِي الدَّوْلَةِ لِنُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ، فَسَارَ صَنْدَلٌ إِلَى نُورِ الدِّينِ وَأَلْبَسُهُ الْخِلْعَةَ، وَسَيَّرَ الْخِلْعَةَ الَّتِي لِصَلَاحِ الدِّينِ وَلِلْخُطَبَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْأَعْلَامِ السُّودِ، ثُمَّ إِنَّ صَنْدَلًا هَذَا صَارَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يَدْرِي الْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَيَعْرِفُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَفِيهِ دِينٌ، وَلَهُ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ بَغْدَادَ.
ذِكْرُ الْوَحْشَةِ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ بَاطِنًا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ أُمُورٌ أَوْجَبَتْ أَنْ تَأَثَّرَ نُورُ الدِّينِ مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ بْنَ أَيُّوبَ سَارَ عَنْ مِصْرَ فِي صَفَرَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ غَازِيًا، وَنَازَلَ حِصْنَ الشَّوْبَكِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَرَكِ يَوْمٌ، وَحَصَرَهُ، وَضَيَّقَ عَلَى مَنْ بِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَأَدَامَ الْقِتَالَ، وَطَلَبُوا الْأَمَانَ وَاسْتَمْهَلُوهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ بِمَا فَعَلَهُ صَلَاحُ الدِّينِ سَارَ عَنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا بِلَادَ الْفِرِنْجِ أَيْضًا لِيَدْخُلَ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقِيلَ لِصَلَاحِ الدِّينِ: إِنْ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ بِلَادَ الْفِرِنْجِ، وَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ: أَنْتَ مِنْ جَانِبٍ وَنُورُ الدِّينِ مِنْ جَانِبٍ، مَلَكَهَا، وَمَتَى زَالَ الْفِرِنْجُ عَنِ الطَّرِيقِ وَأَخَذَ مُلْكَهُمْ لَمْ يَبْقَ بِدِيَارِ مِصْرَ مُقَامٌ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَإِنْ جَاءَ نُورُ الدِّينِ إِلَيْكَ وَأَنْتَ هَا هُنَا، فَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَكِّمُ فِيكَ بِمَا شَاءَ، إِنْ شَاءَ تَرَكَكَ، وَإِنْ شَاءَ عَزَلَكَ، فَقَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَلَيْهِ، وَالْمَصْلَحَةُ الرُّجُوعُ إِلَى مِصْرَ.
فَرَحَلَ عَنِ الشَّوْبَكِ عَائِدًا إِلَى مِصْرَ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَعْتَذِرُ بِاخْتِلَالِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ لِأُمُورٍ بَلَغَتْهُ عَنْ بَعْضِ شِيعَتِهِ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَنَّهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute