للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَصْحَابُهُ وَدَوَابُّهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَخَرَجَ الْفِرِنْجُ مِنْ مُعَسْكَرِهِمْ كَأَنَّهُمُ الْجَرَادُ الْمُنْتَشِرُ، يَدِبُّونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْ مَلَأُوهَا طُولًا وَعَرْضًا، وَطَلَبُوا مَيْمَنَةَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهَا تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجَ نَحْوَهُ قَاصِدِينَ حَذَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ.

فَلَمَّا رَأَى صَلَاحُ الدِّينِ الْحَالَ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، أَمَدَّ تَقِيَّ الدِّينِ بِرِجَالٍ مِنْ عِنْدِهِ لِيَتَقَوَّى بِهِمْ، وَكَانَ عَسْكَرُ دِيَارِ بَكْرٍ وَبَعْضُ الشَّرْقِيِّينَ فِي جَنَاحِ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَأَى الْفِرِنْجُ قِلَّةَ الرِّجَالِ فِي الْقَلْبِ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدْ سَارَ نَحْوَ الْمَيْمَنَةِ مَدَدًا لَهُمْ عَطَفُوا عَلَى الْقَلْبِ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

فَانْدَفَعْتِ الْعَسَاكِرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُنْهَزِمِينَ، وَثَبَتَ بَعْضُهُمْ، فَاسْتُشْهِدَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كَالْأَمِيرِ مَجْلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، وَالظَّهِيرِ أَخِي الْفَقِيهِ عِيسَى، وَكَانَ وَالِيَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَكَالْحَاجِبِ خَلِيلِ الْهَكَّارِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الشُّجْعَانِ الصَّابِرِينَ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ.

وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فِي الْقَلْبِ مَنْ يَرُدُّهُمْ، فَقَصَدُوا التَّلَّ الَّذِي عَلَيْهِ خَيْمَةُ صَلَاحِ الدِّينِ، فَقَتَلُوا مَنْ مَرُّوا بِهِ، وَنَهَبُوا، وَقَتَلُوا عِنْدَ خَيْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ شَيْخُنَا جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَلِيِّ بْنِ رَوَاحَةَ الْحَمَوِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَمَا وَرِثَ الشَّهَادَةَ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِنَّ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَهُ الرُّومُ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَهَذَا قَتَلَهُ الْفِرِنْجُ يَوْمَ عَكَّا، وَقَتَلُوا غَيْرَهُ.

وَانْحَدَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ التَّلِّ، فَوَضَعُوا السَّيْفَ فِيمَنْ لَقَوْهُ، وَكَانَ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفِرِنْجَ لَمْ يَلْقَوْا خَيْمَةَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَلَوْ لَقُوهَا لَعَلِمَ النَّاسُ وُصُولَهُمْ إِلَيْهَا، وَانْهِزَامَ الْعَسَاكِرِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَكَانُوا انْهَزَمُوا أَجْمَعُونَ.

ثُمَّ إِنِ الْفِرِنْجَ نَظَرُوا وَرَاءَهُمْ، فَرَأَوْا أَمْدَادَهُمْ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، فَرَجَعُوا خَوْفًا أَنْ يَنْقَطِعُوا عَنْ أَصْحَابِهِمْ، وَكَانَ سَبَبُ انْقِطَاعِهِمْ أَنَّ الْمَيْمَنَةَ وَقَفَتْ مُقَابَلِتَهُمْ، فَاحْتَاجَ بَعْضُهُمْ [أَنْ] يَقِفَ مُقَابِلَهَا، وَحَمَلَتْ مَيْسَرَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَاشْتَغَلَ الْمَدَدُ بِقِتَالِ مَنْ بِهَا عَنْ الِاتِّصَالِ بِأَصْحَابِهِمْ، وَعَادُوا إِلَى طَرَفِ خَنَادِقِهِمْ، فَحَمَلَتِ الْمَيْسَرَةُ عَلَى الْفِرِنْجِ الْوَاصِلِينَ إِلَى خَيْمَةِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَصَادَفُوهُمْ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، وَثَارَ بِهِمْ غِلْمَانُ الْعَسْكَرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>