كُلُّ طَبَقَةٍ مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَقَدْ جَمَعُوا أَخْشَابَهَا مِنَ الْجَزَائِرِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ الْعَظِيمَةِ لَا يَصْلُحُ لَهَا مِنَ الْخَشَبِ إِلَّا الْقَلِيلُ النَّادِرُ، وَغَشَوْهَا بِالْجُلُودِ وَالْخَلِّ وَالطِّينِ وَالْأَدْوِيَةِ الَّتِي تَمْنَعُ النَّارَ مِنْ إِحْرَاقِهَا، وَأَصْلَحُوا الطُّرُقَ لَهَا، وَقَدَّمُوهَا نَحْوَ مَدِينَةِ عَكَّا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ، وَزَحَفُوا بِهَا فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَشْرَفَتْ عَلَى السُّورِ، وَقَاتَلَ مَنْ بِهَا مَنْ عَلَيْهِ فَانْكَشَفُوا، وَشَرَعُوا فِي طَمِّ خَنْدَقِهَا، فَأَشْرَفَ الْبَلَدُ عَلَى أَنْ يُمْلَكَ عَنْوَةً وَقَهْرًا.
فَأَرْسَلَ أَهْلُهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ إِنْسَانًا سَبَحَ فِي الْبَحْرِ، فَأَعْلَمَهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضِّيقِ، وَمَا قَدْ أَشْرَفُوا عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، فَرَكِبَ هُوَ وَعَسَاكِرُهُ وَتَقَدَّمُوا إِلَى الْفِرِنْجِ وَقَاتَلُوهُمْ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِمْ قِتَالًا عَظِيمًا دَائِمًا يَشْغَلُهُمْ عَنْ مُكَاثَرَةِ الْبَلَدِ.
فَافْتَرَقَ الْفِرِنْجُ فِرْقَتَيْنِ: فُرْقَةٌ تُقَاتِلُ صَلَاحَ الدِّينِ وَفِرْقَةٌ تُقَاتِلُ أَهْلَ عَكَّا، إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ خَفَّ عَمَّنْ بِالْبَلَدِ، وَدَامَ الْقِتَالُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ، آخِرُهَا الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ الشَّهْرِ، وَسَئِمَ الْفَرِيقَانِ الْقِتَالَ، وَمَلُّوا مِنْهُ لِمُلَازَمَتِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَيَقَّنُوا اسْتِيلَاءَ الْفِرِنْجِ عَلَى الْبَلَدِ، لِمَا رَأَوْا مِنْ عَجْزِ مَنْ فِيهِ عَنْ دَفْعِ الْأَبْرَاجِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا حِيلَةً إِلَّا وَعَمِلُوهَا، فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئًا، وَتَابَعُوا رَمْيَ النِّفْطِ الطَّيَّارِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهَا، فَأَيْقَنُوا بِالْبَوَارِ وَالْهَلَاكِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ بِنْصِرٍ مِنْ عِنْدِهِ وَإِذْنٍ فِي إِحْرَاقِ الْأَبْرَاجِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ، أَنَّ إِنْسَانًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ كَانَ مُولَعًا بِجَمْعِ آلَاتِ النَّفَّاطِينَ، وَتَحْصِيلِ عَقَاقِيرَ تُقَوِّي عَمَلَ النَّارِ فَكَانَ مَنْ يَعْرِفُهُ يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْكِرُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: هَذِهِ حَالَةٌ لَا أُبَاشِرُهَا بِنَفْسِي إِنَّمَا أَشْتَهِي مَعْرِفَتَهَا، وَكَانَ بِعَكَّا لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ اللَّهُ.
فَلَمَّا رَأَى الْأَبْرَاجَ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى عَكَّا شَرَعَ فِي عَمَلِ مَا يَعْرِفُهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمُقَوِّيَةِ لِلنَّارِ، بِحَيْثُ لَا يَمْنَعُهَا شَيْءٌ مِنَ الطِّينِ وَالْخَلِّ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا حَضَرَ عِنْدَ الْأَمِيرِ قَرَاقُوشَ، وَهُوَ مُتَوَلِّي الْأُمُورِ بِعَكَّا وَالْحَاكِمُ فِيهَا، وَقَالَ لَهُ: تَأْمُرُ الْمَنْجَنِيقِيَّ أَنْ يَرْمِيَ فِي الْمَنْجَنِيقِ الْمُحَاذِي لِبُرْجٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْرَاجِ مَا أُعْطِيهِ حَتَّى أُحْرِقَهُ.
وَكَانَ عِنْدَ قَرَاقُوشَ مِنَ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ عَلَى الْبَلَدِ وَمَا فِيهِ مَا يَكَادُ يَقْتُلُهُ، فَازْدَادَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute