الدِّينِ أَرْسَلَ يَطْلُبُ الْإِذْنَ عَلَيْهِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ قَدْ بَاتَ مَحْمُومًا، وَقَدْ عَرِقَ، فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُتَرَدِّدًا عَلَى بَابِ خَيْمَتِهِ إِلَى أَنْ أُذِنَ لَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ هَنَّأَهُ بِالْعِيدِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُوَدِّعُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا عَلِمْنَا بِصِحَّةِ عَزْمِكَ عَلَى الْحَرَكَةِ، فَتَصَبَّرْ عَلَيْنَا حَتَّى نُرْسِلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَمَا يَجُوزُ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنَّا، بَعْدَ مَقَامِكَ عِنْدَنَا، عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. فَلَمْ يَرْجِعْ وَوَدَّعَهُ وَانْصَرَفَ.
وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي صَلَاحِ الدِّينِ قَدْ أَقْبَلُ مِنْ بَلَدِهِ حَمَاةَ فِي عَسْكَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ يَأْمُرُهُ بِإِعَادَةِ سَنْجَرْ شَاهْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فَحَكَى لَهُ عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ سَنْجَرْ شَاهْ، لَقِيتُهُ بِعَقَبَةِ فِيقَ، فَسَأَلَتُهُ عَنْ سَبَبِ انْصِرَافِهِ، فَغَالَطَنِي.
فَقُلْتُ لَهُ: سَمِعْتُ بِالْحَالِ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ تَنْصَرِفَ بِغَيْرِ تَشْرِيفِ السُّلْطَانِ وَهَدِيَّتِهِ، فَيَضِيعَ تَعَبُكَ، وَسَأَلَتُهُ الْعُودَ فَلَمْ يُصْغِ إِلَيَّ قَوْلِي، فَكَلَّمَنِي كَأَنَّنِي بَعْضُ [مَمَالِيكِهِ] ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ مِنْهُ قُلْتُ لَهُ: إِنْ رَجَعْتَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَإِلَّا أَعَدْتُكَ كَارِهًا، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَخَذَ ذَيْلِي وَقَالَ: قَدْ اسْتَجَرْتُ بِكَ، وَجَعَلَ يَبْكِي، فَعَجِبْتُ مِنْ حَمَاقَتِهِ أَوَّلًا، وَذِلَّتِهِ ثَانِيًا، فَعَادَ مَعِي.
فَلَمَّا عَادَ بَقِيَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ عِدَّةَ أَيَّامٍ، وَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَتَابِكْ يَأْمُرُهُ بِقَصْدِ الْجَزِيرَةِ، وَمُحَاصَرَتِهَا، وَأَخْذِهَا، وَأَنَّهُ يُرْسِلُ إِلَى طَرِيقِ سَنْجَرْ شَاهْ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ إِذَا عَادَ.
فَخَافَ عِزُّ الدِّينِ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَكِيدَةً لِيُشَنِّعَ عَلَيْهِ بِنَكْثِ الْعَهْدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أُرِيدُ خَطَّكَ بِذَلِكَ وَمَنْشُورًا مِنْكَ بِالْجَزِيرَةِ، فَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ [وَخَمْسِمِائَةٍ] .
وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُمَا، فَسَارَ عِزُّ الدِّينِ إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَحَصَرَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا آخِرُهَا شَعْبَانُ، وَلَمْ يَمْلِكْهَا بَلِ اسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَنْجَرْ شَاهْ عَلَى يَدِ رَسُولِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ بَعْدَ قَصْدِهَا يَقُولُ: إِنْ صَاحِبَ سِنْجَارَ، وَصَاحِبَ إِرْبِلَ وَغَيْرِهِمَا قَدْ شَفَعَا فِي سَنْجَرْ شَاهْ، فَاسْتَقَرَّ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ لِعِزِّ الدِّينِ نِصْفَ أَعْمَالِ الْجَزِيرَةِ، وَلِسَنْجَرْ [شَاهْ] نِصْفَهَا، وَتَكُونُ الْجَزِيرَةُ بِيَدِ سَنْجَرْ شَاهْ مِنْ جُمْلَةِ النِّصْفِ.
وَعَادَ عِزُّ الدِّينِ فِي شَعْبَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: مَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute