للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِيمًا، حَلِيمًا، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُتَوَاضِعًا، صَبُورًا عَلَى مَا يَكْرَهُ، كَثِيرَ التَّغَافُلِ عَنْ ذُنُوبِ أَصْحَابِهِ، يَسْمَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ مَا يَكْرَهُ وَلَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَلَا يَتَغَيَّرُ عَلَيْهِ.

وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا جَالِسًا وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَرَمَى بَعْضُ الْمَمَالِيكِ بَعْضًا بِسَرْمُوزٍ فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَصَلَتْ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ فَأَخْطَأَتْهُ، وَوَقَعَتْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى يُكَلِّمُ جَلِيسَهُ لِيَتَغَافَلَ عَنْهَا.

وَطَلَبَ مَرَّةً الْمَاءَ فَلَمْ يَحْضُرْ، وَعَاوَدَ الطَّلَبَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَنَا، وَاللَّهِ قَدْ قَتَلَنِي الْعَطَشُ! فَأُحْضِرَ الْمَاءُ فَشَرِبَهُ وَلَمْ يُنْكِرِ التَّوَانِيَ فِي إِحْضَارِهِ.

وَكَانَ مَرَّةً قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا أَرْجَفَ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ، فَلَمَّا بَرِئَ مِنْهُ، وَأُدْخِلَ الْحَمَّامَ كَانَ الْمَاءُ حَارًّا، فَطَلَبَ مَاءً بَارِدًا، فَأَحْضَرَهُ الَّذِي يَخْدُمُهُ، فَسَقَطَ مِنَ الْمَاءِ شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ، فَنَالَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَتَأَلَّمَ لَهُ لِضَعْفِهِ.

ثُمَّ طَلَبَ الْبَارِدَ أَيْضًا فَأُحْضِرَ، فَلَمَّا قَارَبَهُ سَقَطَتِ الطَّاسَةُ عَلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ الْمَاءُ جَمِيعُهُ عَلَيْهِ، فَكَادَ يَهْلِكُ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ لِلْغُلَامِ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي، فَعَرِّفْنِي! فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَسَكَتَ عَنْهُ.

وَأَمَّا كَرَمُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبَذْلِ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ يُخْرِجُهُ، وَيَكْفِي دَلِيلًا عَلَى كَرَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ لَمْ يُخَلِّفْ فِي خَزَائِنِهِ غَيْرَ دِينَارٍ وَاحِدٍ صُورِيٍّ، وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا نَاصِرِيَّةً.

وَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ كُلَّ عَكَّا قُبَالَةَ الْفِرِنْجِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ مِنْ فَرَسٍ وَبَغْلٍ سِوَى الْجِمَالِ، وَأَمَّا الْعَيْنُ وَالثِّيَابُ وَالسِّلَاحُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ، وَلَمَّا انْقَرَضَتِ الدَّوْلَةُ الْعَلَوِيَّةُ بِمِصْرَ أَخَذَ مِنْ ذَخَائِرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ مَا يَفُوتُ الْإِحْصَاءَ، فَفَرَّقَهُ جَمِيعَهُ.

وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَتَكَبَّرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ يَعِيبُ الْمُلُوكَ الْمُتَكَبِّرِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ وَيَعْمَلُ لَهُمُ السَّمَاعَ، فَإِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ لِرَقْصٍ أَوْ سَمَاعٍ يَقُومُ لَهُ فَلَا يَقْعُدُ حَتَّى يَفْرَغَ الْفَقِيرُ.

وَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا مِمَّا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ نَادِرًا فِي عَصْرِهِ، كَثِيرَ الْمَحَاسِنِ وَالْأَفْعَالِ الْجَمِيلَةِ، عَظِيمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>