وَأَعْمَالِهَا لِلْأَفْضَلِ، وَهُوَ فِي طَاعَةِ كِيكَاوُسَ، وَالْخُطْبَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ يَقْصِدُونَ دِيَارَ الْجَزِيرَةِ، فَمَا يَفْتَحُونَهُ مِمَّا بِيَدِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مِثْلَ: حَرَّانَ وَالرُّهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَزَرِيَّةِ، تَكُونُ لِكِيكَاوُسَ. وَجَرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَمَعُوا الْعَسَاكِرَ وَسَارُوا، فَمَلَكُوا قَلْعَةَ رَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَهَا الْأَفْضَلُ، فَمَالَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمَا.
ثُمَّ سَارَا إِلَى قَلْعَةِ تَلِّ بَاشِرَ، وَفِيهَا صَاحِبُهَا وَلَدُ بَدْرِ الدِّينِ دَلْدَرْم الْيَارُوقِيُّ. فَحَصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ وَمَلَكُوهُ مِنْهُ، فَأَخَذَهَا كِيكَاوُسَ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَى الْأَفْضَلِ، فَاسْتَشْعَرَ الْأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَخَافَ أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ حَلَبَ يَفْعَلُ بِهِ هَكَذَا، فَلَا يَحْصُلُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَلَعَ بَيْتَهُ لِغَيْرِهِ فَفَتَرَتْ نِيَّتُهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا أَهْلُ الْبِلَادِ، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَفْضَلَ يَمْلِكُهَا فَيَسْهُلَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، فَلَمَّا رَأَوْا ضِدَّ ذَلِكَ وَقَفُوا.
وَأَمَّا شِهَابُ الدِّينِ أَتَابِكْ وَلَدُ الظَّاهِرِ صَاحِبُ حَلَبَ، فَإِنَّهُ مُلَازِمٌ قَلْعَةَ حَلَبَ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا، وَلَا يُفَارِقُهَا الْبَتَّةَ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتَهُ مُذْ مَاتَ الظَّاهِرُ، خَوْفًا مِنْ ثَائِرٍ يَثُورُ بِهِ، فَلَمَّا حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ خَافَ أَنْ يَحْصُرُوهُ، وَرُبَّمَا سَلَّمَ أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْجُنْدُ الْمَدِينَةَ إِلَى الْأَفْضَلِ لِمَيْلِهِمْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ ابْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ، صَاحِبِ الدِّيَارِ الْجَزَرِيَّةِ وَخِلَاطَ وَغَيْرِهَا، يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِتَكُونَ طَاعَتُهُمْ لَهُ، وَيَخْطُبُونَ لَهُ، وَيَجْعَلُ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَعْمَالِ حَلَبَ مَا اخْتَارَ، وَلِأَنَّ وَلَدَ الظَّاهِرِ هُوَ ابْنُ أُخْتِهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي عَسَاكِرِهِ الَّتِي عِنْدَهُ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْبَاقِينَ يَطْلُبُهُمْ إِلَيْهِ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَحْضَرَ إِلَيْهِ الْعَرَبَ مِنْ طَيْءٍ وَغَيْرَهُمْ، وَنَزَلَ بِظَاهِرِ حَلَبَ.
وَلَمَّا أَخَذَ كِيكَاوُسَ تَلَّ بَاشِرَ كَانَ الْأَفْضَلُ يُشِيرُ بِمُعَاجَلَةِ حَلَبَ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْعَسَاكِرِ بِهَا، وَقَبْلَ أَنْ يَحْتَاطُوا وَيَتَجَهَّزُوا، فَعَادَ عَنْ ذَلِكَ، وَصَارَ يَقُولُ: الرَّأْيُ أَنَّنَا نَقْصِدُ مَنْبِجَ وَغَيْرَهَا لِئَلَّا يَبْقَى لَهُمْ وَرَاءَ ظُهُورِنَا شَيْءٌ، قَصْدًا لِلتَّمَادِي وَمُرُورِ الزَّمَانِ فِي لَا شَيْءَ ; فَتَوَجَّهُوا مِنْ تَلِّ بَاشِرَ إِلَى جِهَةِ مَنْبِجَ، وَتَقَدَّمَ الْأَشْرَفُ نَحْوَهُمْ، وَسَارَتِ الْعَرَبُ فِي مُقَدِّمَتِهِ ; وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ عَسْكَرِ كِيكَاوُسَ، نَحْوَ أَلْفِ فَارِسٍ، قَدْ سَبَقَتْ مُقَدِّمَتَهُ لَهُ فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْعَرَبُ وَمِنْ مَعَهُمْ مِنَ الْعَسْكَرِ الْأَشْرَفِيّ، فَاقْتَتَلُوا، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ كِيكَاوُسَ، وَعَادُوا إِلَيْهِ مُنْهَزِمِينَ، وَأَكْثَرَ الْعَرَبُ الْأَسْرَ مِنْهُمْ وَالنَّهْبَ لِجَوْدَةِ خَيْلِهِمْ وَدَبَرِ خَيْلِ الرُّومِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute