الصُّفَّرِ، فَلَمَّا سَارَ الْفِرِنْجُ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ انْتَقَلَ هُوَ إِلَى عَالِقِينَ، فَأَقَامَ بِهِ وَمَرِضَ، وَتُوُفِّيَ وَحُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ. فَدُفِنَ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي لَهُ بِهَا.
وَكَانَ عَاقِلًا، ذَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَمَكْرٍ شَدِيدٍ، وَخَدِيعَةٍ، صَبُورًا حَلِيمًا، ذَا أَنَاةٍ، يَسْمَعُ مَا يَكْرَهُ وَيُغْضِي عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، كَثِيرَ الْحَرَجِ وَقْتَ الْحَاجَةِ لَا يَقِفُ فِي شَيْءٍ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ فَلَا.
وَكَانَ عُمُرُهُ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً وَشُهُورًا لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَلَكَ دِمَشْقَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَفْضَلِ ابْنِ أَخِيهِ، وَمَلَكَ مِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ أَوْ مِنْهُ أَيْضًا.
وَمِنْ أَعْجَبِ مَا رَأَيْتُ مِنْ مُنَافَاةِ الطَّوَالِعِ أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْأَفْضَلُ مَمْلَكَةً قَطُّ إِلَّا وَأَخَذَهَا مِنْهُ عَمُّهُ الْعَادِلُ، فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ أَقْطَعَ ابْنَهُ الْأَفْضَلَ حَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَمَيَّافَارِقِينَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، بَعْدَ وَفَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَلَبَ أَرْسَلَ أَبُوهُ الْمَلِكَ الْعَادِلَ بَعْدَهُ، فَرَدَّهُ مِنْ حَلَبَ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْبِلَادَ مِنْهُ.
ثُمَّ مَلَكَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَ مِصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْعَزِيزِ، فَأَخَذَهَا أَيْضًا مِنْهُ، ثُمَّ مَلَكَ صَرْخَدَ فَأَخَذَهَا مِنْهُ.
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّنِي رَأَيْتُ بِالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ سَارِيَةً مِنَ الرُّخَامِ مُلْقَاةً فِي بَيْعَةِ صِهْيُونَ، لَيْسَ مِثْلُهَا، فَقَالَ الْقَسُّ الَّذِي بِالْبَيْعَةِ: هَذِهِ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ لِيَنْقُلَهَا إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ إِنَّ الْعَادِلَ أَخَذَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْضَلِ، طَلَبَهَا مِنْهُ فَأَخَذَهَا. وَهَذَا غَايَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يُحْكَى.
وَكَانَ الْعَادِلُ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ فِي حَيَاتِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ. فَجَعَلَ بِمِصْرَ الْمَلِكَ الْكَامِلَ مُحَمَّدًا، وَبِدِمَشْقَ، وَالْقُدْسِ، وَطَبَرِيَّةِ، وَالْأُرْدُنِّ وَالْكَرَكِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُصُونِ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا، ابْنَهُ الْمُعَظَّمَ عِيسَى، وَجَعَلَ بَعْضَ دِيَارِ الْجَزِيرَةِ وَمَيَّافَارِقِينَ وَخِلَاطَ وَأَعْمَالِهَا لِابْنِهِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى، وَأَعْطَى الرُّهَا لِوَلَدِهِ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي، وَأَعْطَى قَلْعَةَ جَعْبَرَ لِوَلَدِهِ الْحَافِظِ أَرْسَلَان شَاهْ ; فَلَمَّا تُوُفِّيَ ثَبَتَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي الْمَمْلَكَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ أَبُوهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute