فَنَهَاهُمْ مَجَّاعَةُ عَنْ قَتْلِهَا وَقَالَ: أَنَا لَهَا جَارٌ، فَتَرَكُوهَا، وَقَالَ لَهُمْ: عَلَيْكُمْ بِالرِّجَالِ، فَقَطَعُوا الْفُسْطَاطَ. ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ تَدَاعَوْا، فَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ: بِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي أَهْلَ الْيَمَامَةِ، وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا نَحُورُ بَعْدَ الرِّجَالِ، وَاللَّهِ لَا أَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ حَتَّى نَهْزِمَهُمْ، أَوْ أُقْتَلَ فَأُكَلِّمَهُ بِحُجَّتِي. غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَعَضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، وَاضْرِبُوا فِي عَدُوِّكُمْ، وَامْضُوا قُدُمًا.
وَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِالْفِعَالِ. وَحَمَلَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ حَتَّى رَدُّوهُمْ إِلَى أَبْعَدَ مِمَّا كَانُوا، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَذَامَرَتْ بَنُو حَنِيفَةَ، وَقَاتَلَتْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ يَوْمَئِذٍ تَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَارَةً لِلْكَافِرِينَ، وَقُتِلَ سَالِمٌ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ، وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أُولِي الْبَصَائِرِ. فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ مَا النَّاسُ فِيهِ قَالَ: امْتَازُوا أَيُّهَا النَّاسُ لِنَعْلَمَ بَلَاءَ كُلِّ حَيٍّ، وَلِنَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى. فَامْتَازُوا، وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي قَدْ جَنَّبُوا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، وَجَنَّبَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ. فَلَمَّا امْتَازُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: الْيَوْمَ يُسْتَحَى مِنَ الْفِرَارِ، فَمَا رُئِيَ يَوْمٌ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَمْ يُدْرَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ أَعْظَمَ نِكَايَةً، غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ كَانَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ الْقُرَى أَكْثَرَ مِنْهُ فِي أَهْلِ الْبَوَادِي.
وَثَبَتَ مُسَيْلِمَةُ فَدَارَتْ رَحَاهُمْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ خَالِدٌ أَنَّهَا لَا تَرْكُدُ إِلَّا بِقَتْلِ مُسَيْلِمَةَ، وَلَمْ تَحْفَلْ بَنُو حَنِيفَةَ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ. ثُمَّ بَرَزَ خَالِدٌ وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ وَنَادَى بِشِعَارِهِمْ، وَكَانَ شِعَارُهُمْ: يَا مُحَمَّدَاهُ! فَلَمْ يَبْرُزْ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ.
وَدَارَتْ رَحَا الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَا خَالِدٌ مُسَيْلِمَةَ فَأَجَابَهُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِمَّا يَشْتَهِي مُسَيْلِمَةُ فَكَانَ إِذَا هَمَّ بِجَوَابِهِ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ لِيَسْتَشِيرَ شَيْطَانَهُ، فَيَنْهَاهُ أَنْ يَقْبَلَ. فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ مَرَّةً، وَرَكِبَهُ خَالِدٌ وَأَرْهَقَهُ، فَأَدْبَرَ وَزَالَ أَصْحَابُهُ، وَصَاحَ خَالِدٌ فِي النَّاسِ فَرَكِبُوهُمْ، فَكَانَتْ هَزِيمَتُهُمْ، وَقَالُوا لِمُسَيْلِمَةَ: أَيْنَ مَا كُنْتَ تَعِدُنَا؟ فَقَالَ: قَاتِلُوا عَنْ أَحْسَابِكُمْ. وَنَادَى الْمُحَكَّمُ: يَا بَنِي حَنِيفَةَ، الْحَدِيقَةَ الْحَدِيقَةَ! فَدَخَلُوهَا وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute