أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ قَالَ: لَا. فَكَانَ يُنْفِقُ جَمِيعَ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ مَعَهُ فِي دَارِهِ.
وَفِي خِلَافَتِهِ افْتَتَحَ مَعْدِنَ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَانَ يُسَوِّي فِي قِسْمَتِهِ بَيْنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَقِيلَ لَهُ: لِتُقَدِّمْ أَهْلَ السَّبْقِ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ، وَوَجَبَ أَجْرُهُمْ عَلَيْهِ يُوَفِّيهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا بَلَاغٌ. وَكَانَ يَشْتَرِي الْأَكْسِيَةَ وَيُفَرِّقُهَا فِي الْأَرَامِلِ فِي الشِّتَاءِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءِ وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو صَالِحٍ الْغِفَارِيُّ: كَانَ عُمَرُ يَتَعَهَّدُ امْرَأَةً عَمْيَاءَ فِي الْمَدِينَةِ بِاللَّيْلِ، فَيَقُومُ بِأَمْرِهَا، فَكَانَ إِذَا جَاءَهَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَفَعَلَ مَا أَرَادَتْ. فَرَصَدَهُ عُمَرُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، كَانَ يَأْتِيهَا وَيَقْضِي أَشْغَالَهَا سِرًّا وَهُوَ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ هُوَ لَعَمْرِي! قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ حَضَرَتْهُ عَائِشَةُ وَهُوَ يُعَالِجُ الْمَوْتَ فَتَمَثَّلَتْ:
لَعُمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَنَظَرَ إِلَيْهَا كَالْغَضْبَانِ ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: ١٩] ، إِنِّي قَدْ كُنْتُ نَحَلْتُكِ حَائِطَ كَذَا وَفِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ، فَرُدِّيهِ عَلَى الْمِيرَاثِ، فَرَدَّتْهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ. قَالَتْ: مَنِ الثَّانِيَةُ؟ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ. قَالَ: ذَاتُ بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ، يَعْنِي زَوْجَتَهُ، وَكَانَتْ حَامِلًا فَوَلَدَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَقَالَ لَهَا: أَمَا إِنَّا مُنْذُ وَلِينَا أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ نَأْكُلْ لَهُمْ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَلَكِنَّا قَدْ أَكَلْنَا مِنْ جَرِيشِ طَعَامِهِمْ، وَلَبِسْنَا مَنْ خَشِنِ ثِيَابِهِمْ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا هَذَا الْعَبْدُ وَهَذَا الْبَعِيرُ وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ، فَإِذَا مُتُّ فَابْعَثِي بِالْجَمِيعِ إِلَى عُمَرَ. فَلَمَّا مَاتَ بَعَثَتْهُ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ إِلَى الْأَرْضِ وَجَعَلَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ! لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ. وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ. وَأَمَرَ بِرَفْعِهِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَسْلُبُ عِيَالَ أَبِي بَكْرٍ عَبْدًا وَنَاضِحًا وَسَحَقَ قَطِيفَةٍ ثَمَنُهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، فَلَوْ أَمَرْتَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ هَذَا فِي وِلَايَتِي، وَلَا خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مِنْهُ وَأَتَقَلَّدُهُ أَنَا. وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ زَوْجَتَهُ اشْتَهَتْ حُلْوًا فَقَالَ: لَيْسَ لَنَا مَا نَشْتَرِي بِهِ، فَقَالَتْ: أَنَا أَسْتَفْضِلُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ مَا نَشْتَرِي بِهِ. قَالَ: افْعَلِي، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ لَهَا فِي أَيَّامٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute