إِحداهما: يجوز أن يكتب إلى قاضٍ معينٍ، ويجوز أن يطلق، فيكتب إِلى كلِّ من يصل إِليه من قضاة المسلمين، وعن أبي حنيفة: أنه لا يجوز الإِطلاق الكليُّ، وللقاضي أبي سعد الهرويِّ حكايةٌ مبنيةٌ عَلَى ذلك، قال: تحمَّلْتُ شهادةٌ مع الشيْخ أبي سَعْدٍ المتولِّي على كتاب حكمي من قاضي هذا إِلى مجلس القاضي الحُسَيْن، وكانت الشهادة على الخَتْم، والعنوان إِلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، فرد القاضي الكتاب، وقال الشهادة على الختم دون مضمون الكَتاب غير مقبولة عنْد الشَّافعيِّ -رضي الله عنه- والعُنْوَان من غير تعيْين المكتوب إلَيْه غيرُ جائزٍ عند أبي حنيفة، فلا أقبل كتابًا اجتمع الإمامان -رضي الله عنهما- عَلَى ردِّه، كما أن من احتجم ومسَّ ذكَرَه، وصلى لا تصح صلاته على المذهبين، وإذا كان الكتابُ إلى معيَّن، فشهد شاهدان بالحكم عنْد حاكم آخر، فإنه يقبل شهادتهما، ويمضيه، وإن لم يكتب إِليه، وإلى كلِّ من يصل إِلَيْه من القضاة؛ اعتمادًا على الشهادة، وعن أبي حنيفة، لا يقبل غير المعيَّن شهادتهما إِذا لم تكتب، وإلى كل من يصل إِليه، ويجري هذا الخلاف فيما إِذا مات الكاتب، وشهد الشاهدان عَلَى حكمه عند المكتوب إِليه أو مات المكتوب إليه، وشهد عند من قام مقامه، فعند أبي حنيفة لا يقبل شهادتهما، ولا يعمل بالكتاب، وعندنا يقبل شهادتهما، ويمضي الحكم، وأما إذا كان الكتابُ بالحكم المُبْرَم، فكما لو قامت البيِّنة على حكم القاضي بعْد موته، وأما إِذا كان مقبول الشهادة، فلأنه مشبه بالشهادة على الشهادة، وشهادة الفرع بعد موت الأصل مقبولةٌ، والعَزْل والجُنُون والعمَى والخَرَسُ كالمَوْت، ولو كتب القاضي إِلى خليفته، ثم مات القاضي أو عزل تعذر علَى الخليفةِ القبولُ والإمضاءُ، إِن قلنا: إِنه ينعزل بانعزال الأصل، ولو ارتد الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتابُ إِلى المكتوب إِليه، فجواب ابن القاصِّ، وبه أخذ صاحبا "المهذَّب" و"التهذيب" وآخرون: أن الكتاب، إذا كان بالحكم المبرم أمضى، ولم يَرُدَّ؛ لأن الفِسْقَ الحادث لا يؤثر في الحكم السابق، وإن كان بسماع الشهادة، فلا يَقْبَل، ولا يحكم به، كما لو فسق الشاهد قَبْل أن يحكم بشهادته وأطلق القاضي ابن كج القَوْلَ بأنه لا يقبل كتابه، إِذا حدث الفسْقُ من غير فَرْق بين كتابٍ وكتابٍ، وفرق بينه وبين الموت بأن ظهور الفسق يشعر بالحنث، وقيام الفسق يوم الحكم، وهذا قضية إِيراد الشيخ أبي حامد وابن الصبَّاغ (١)، والله أعلم.
(١) كلام المصنف يشعر بترجيح الأول وصرح به في الشرح الصغير، قال في القوت: وهو ما أورده المحاملي في المقنع والماوردي والبندنيجي والقاضي أبو الطيب في مجرده وغيره والجرجاني في شافيه وتحريره وشرع الروياني وصاحب البيان ولم أرَ في الكتب بعد التنقيب غيره، ثم نازع الرافعي فيما نقله عن الشيخ أبي حامد إلى أن قال فلم يبق إلا ما حكاه عن إطلاق ابن كج فإن لم يؤول فهو وجه شاذ.