تُضْرَبُوا، كَيْفَ بِكُمْ لَوْ قُلْتُ لَكُمْ تَصَدَّقُوا عَنِّي بِأَمْوَالِكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخَلِّصَنِي، أَوْ قَرِّبُوا قُرْبَانًا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ وَيَرْضَى عَنِّي؟ وَإِنَّكُمْ قَدْ أَعْجَبَتْكُمْ أَنْفُسُكُمْ فَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ عُوفِيتُمْ بِإِحْسَانِكُمْ فَبَغَيْتُمْ وَتَعَزَّزْتُمْ، لَوْ صَدَقْتُمْ وَنَظَرْتُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ لَوَجَدْتُمْ لَكُمْ عُيُوبًا سَتَرَهَا اللَّهُ بِالْعَافِيَةِ، وَقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا وَالرِّجَالُ يُوَقِّرُونَنِي وَأَنَا مَسْمُوعٌ كَلَامِي، مَعْرُوفٌ مِنْ حَقِّي، مُنْتَصَفٌ مِنْ خَصْمِي، فَأَصْبَحْتُ الْيَوْمَ وَلَيْسَ لِي رَأْيٌ وَلَا كَلَامٌ مَعَكُمْ، فَأَنْتُمْ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ مُصِيبَتِي.
ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَبِّ، لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي! لَيْتَنِي إِنْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ حَيْضَةً مُلْقَاةً، وَيَا لَيْتَنِي عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُ فَصَرَفْتَ وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي! لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَالْمَوْتُ أَجْمَلُ بِي! أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا، وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا، وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا، وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا؟ إِلَهِي أَنَا عَبْدٌ ذَلِيلٌ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ، وَإِنْ أَسَأْتُ فَبِيَدِكَ عُقُوبَتِي! جَعَلْتَنِي لِلْبَلَاءِ غَرَضًا فَقَدْ وَقَعَ عَلِيَّ الْبَلَاءُ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جَبَلٍ لَضَعُفَ عَنْ حَمْلِهِ فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي! ذَهَبَ الْمَالُ فَصِرْتُ أَسْأَلُ بِكَفِّي فَيُطْعِمُنِي مَنْ كُنْتُ أَعُولُهُ اللُّقْمَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَمُنُّهَا عَلَيَّ وَيُعَيِّرُنِي! هَلَكَ أَوْلَادِي، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُهُمْ أَعَانَنِي. فَقَدْ مَلَّتْنِي أَهْلِي وَعَقَّنِي أَرْحَامِي فَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفِي، وَرَغِبَ عَنِّي صَدِيقِي، وَجُحِدَتْ حُقُوقِي، وَنُسِيَتْ صَنَائِعِي. أَصْرُخُ فَلَا يُصْرِخُونَنِي، وَأَعْتَذِرُ فَلَا يَعْذِرُونَنِي. دَعَوْتُ غُلَامِي فَلَمْ يُجِبْنِي، وَتَضَرَّعْتُ إِلَى أَمَتِي فَلَمْ تَرْحَمْنِي، وَإِنَّ قَضَاءَكَ هُوَ الَّذِي آذَانِي وَأَقْمَأَنِي، وَإِنَّ سُلْطَانَكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي. فَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ مِلْءَ فَمِي، ثُمَّ كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُحَاجَّ مَوْلَاهُ عَنْ نَفْسِهِ - لَرَجَوْتُ أَنْ تُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَعَلَا عَنِّي فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ، وَيَسْمَعُنِي وَلَا أَسْمَعُهُ، لَا نَظَرَ إِلَيَّ فَرَحِمَنِي، وَلَا دَنَا مِنِّي فَأَتَكَلَّمَ بِبَرَاءَتِي وَأُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِي.
فَلَمَّا قَالَ أَيُّوبُ ذَلِكَ أَظَلَّتْهُمْ غَمَامَةٌ وَنُودِيَ مِنْهَا: يَا أَيُّوبُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ وَلَمْ أَزَلْ مِنْكَ قَرِيبًا، فَقُمْ فَأَدْلِ بِحُجَّتِكَ، وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ، وَقُمْ مَقَامَ جَبَّارٍ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ. تَجْعَلُ الزِّيَارَ فِي فَمِ الْأَسَدِ، وَاللِّجَامَ فِي فَمِ التِّنِّينِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute