للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَكِيلُ مِكْيَالًا مِنَ النُّورِ، وَتَزِنُ مِثْقَالًا مِنَ الرِّيحِ، وَتُصِرُّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ، وَتَرُدُّ أَمْسِ. لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ أَمْرًا لَا تَبْلُغُهُ بِمِثْلِ قُوَّتِكَ. أَرَدْتَ أَنْ تُكَابِرَنِي بِضَعْفِكَ أَمْ تُخَاصِمَنِي بِعَيِّكَ أَمْ تُحَاجِّنِي بِخَطَلِكَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ؟ هَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا؟ أَيْنَ كُنْتَ مَعِي يَوْمَ رَفَعْتُ السَّمَاءَ سَقْفًا فِي الْهَوَاءِ لَا بِعَلَائِقَ وَلَا بِدَعَائِمَ تَحْمِلُهَا؟ هَلْ تَبْلُغُ حِكْمَتُكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا، أَوْ تُسَيِّرَ نُجُومَهَا، أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا؟ وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ.

فَقَالَ أَيُّوبُ: قَصَّرْتُ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ! لَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَذَهَبْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُكَ! إِلَهِي اجْتَمَعَ عَلَيَّ الْبَلَاءُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الَّذِي ذَكَرْتَ صُنْعُ يَدَيْكَ، وَتَدْبِيرُ حِكْمَتِكَ لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا تَخْفَى عَلَيْكَ خَافِيَةٌ، تَعْلَمُ مَا تُخْفِي الْقُلُوبُ، وَقَدْ عَلِمْتَ بَلَائِي مَا لَمْ أَكُنْ أَعْلَمُهُ. كُنْتُ أَسْمَعُ بِسَطْوَتِكَ سَمْعًا فَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ نَظَرُ الْعَيْنِ. وَإِنَّمَا تَكَلَّمْتُ بِمَا تَكَلَّمْتُ بِهِ لِتَعْذِرَنِي، وَسَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدَيَّ عَلَى فَمِي، وَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي، وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي فَدَسَسْتُ فِيهِ وَجْهِي فَلَا أَعُودُ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ. وَدَعَا.

فَقَالَ اللَّهُ: يَا أَيُّوبُ، نَفَذَ فِيكَ حُكْمِي، وَسَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي، قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ، وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَعِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ وَعَزَاءً لِلصَّابِرِينَ، فَـ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: ٤٢] فِيهِ شِفَاءٌ، وَقَرِّبْ عَنْ أَصْحَابِكَ قُرْبَانًا وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ. فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا، فَرَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَلَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فَسَأَلَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، مَالِي لَا أَعْرِفُهُ! فَتَبَسَّمَ، فَعَرَفَتْهُ بِضَحِكِهِ، فَاعْتَنَقَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٍ.

وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ قَبْلَ يُوسُفَ وَقِصَّتِهِ لِمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فِي عَهْدِ يَعْقُوبَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>