أَحَدٌ أَبَدًا. فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ يَشْتُمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدًا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ حَتَّى كَثُرُوا، فَكَتَبَ سَعِيدٌ وَأَشْرَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عُثْمَانَ فِي إِخْرَاجِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُلْحِقُوهُمْ بِمُعَاوِيَةَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنَّ نَفَرًا قَدْ خُلِقُوا لِلْفِتْنَةِ فَأَقِمْ عَلَيْهِمْ وَانْهَهُمْ، فَإِنْ آنَسْتَ مِنْهُمْ رُشْدًا فَاقْبَلْ، وَإِنْ أَعْيَوْكَ فَارْدُدْهُمْ عَلَيَّ.
فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْزَلَهُمْ كَنِيسَةَ مَرْيَمَ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ بِالْعِرَاقِ بِأَمْرِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لَكُمْ أَسْنَانٌ وَأَلْسِنَةٌ، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ بِالْإِسْلَامِ شَرَفًا، وَغَلَبْتُمُ الْأُمَمَ وَحَوَيْتُمْ مَوَارِيثَهُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ نَقِمْتُمْ قُرَيْشًا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ كُنْتُمْ أَذِلَّةً، إِنَّ أَئِمَّتَكُمْ لَكُمْ جُنَّةٌ فَلَا تَفْتَرِقُوا عَنْ جُنَّتِكُمْ، وَإِنَّ أَئِمَّتَكُمْ يَصْبِرُونَ لَكُمْ عَلَى الْجَوْرِ وَيَحْتَمِلُونَ مِنْكُمُ الْمَؤُونَةَ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيَبْتَلِيَنَّكُمُ اللَّهُ بِمَنْ يَسُومُكُمُ السُّوءَ وَلَا يَحْمَدُكُمْ عَلَى الصَّبْرِ، ثُمَّ تَكُونُونَ شُرَكَاءَهُمْ فِيمَا جَرَرْتُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ فِي حَيَاتِكُمْ وَبَعْدَ وَفَاتِكُمْ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ صَعْصَعَةُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَكْثَرَ الْعَرَبِ وَلَا أَمْنَعَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتُخَوِّفَنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْجُنَّةِ فَإِنَّ الْجُنَّةَ إِذَا اخْتُرِقَتْ خُلِصَ إِلَيْنَا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَرَفْتُكُمُ الْآنَ وَعَلِمْتُ أَنَّ الَّذِي أَغْرَاكُمْ عَلَى هَذَا قِلَّةُ الْعُقُولِ، وَأَنْتَ خَطِيبُهُمْ وَلَا أَرَى لَكَ عَقْلًا، أُعَظِّمُ عَلَيْكَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ وَتُذَكِّرُنِي بِالْجَاهِلِيَّةِ! أَخْزَى اللَّهُ قَوْمًا عَظَّمُوا أَمْرَكُمْ! افْقَهُوا عَنِّي، وَلَا أَظُنُّكُمْ تَفْقَهُونَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُعَزَّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، لَمْ تَكُنْ بِأَكْثَرِ الْعَرَبِ وَلَا أَشَدِّهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَكْرَمَهُمْ أَحْسَابًا، وَأَمْحَضَهُمْ أَنْسَابًا، وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، وَلَمْ يَمْتَنِعُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالنَّاسُ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِلَّا بِاللَّهِ، فَبَوَّأَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ! هَلْ تَعْرِفُونَ عَرَبِيًّا أَوْ عَجَمِيًّا أَوْ أَسْوَدَ أَوْ أَحْمَرَ إِلَّا وَقَدْ أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي بَلَدِهِ وَحُرْمَتِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرِدْهُمْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِكَيْدٍ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ خَدَّهُ الْأَسْفَلَ، حَتَّى أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَ مَنْ أَكْرَمَ وَاتَّبَعَ دِينَهُ مِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا وَسُوءِ مَرَدِّ الْآخِرَةِ، فَارْتَضَى لِذَلِكَ خَيْرَ خَيْرِ خَلْقِهِ، ثُمَّ ارْتَضَى لَهُ أَصْحَابًا فَكَانَ خِيَارُهُمْ قُرَيْشًا، ثُمَّ بَنَى هَذَا الْمُلْكَ عَلَيْهِمْ، وَنَجْعَلُ هَذِهِ الْخِلَافَةَ فِيهِمْ، فَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute