فَرَكِبَتْ وَأَلْبَسُوا هَوْدَجَهَا الْأَدْرَاعَ، فَلَمَّا بَرَزَتْ مِنَ الْبُيُوتِ وَهِيَ عَلَى الْجَمَلِ بِحَيْثُ تَسْمَعُ الْغَوْغَاءَ وَقَفَتْ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ. وَقَاتَلَ الزُّبَيْرُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَجَعَلَ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ وَالزُّبَيْرُ كَافٌّ عَنْهُ وَيَقُولُ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا كَفَّ الزُّبَيْرُ عَنْهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ» "، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَهُ. وَبَيْنَمَا عَائِشَةُ وَاقِفَةٌ إِذْ سَمِعْتُ ضَجَّةً شَدِيدَةً فَقَالَتْ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَجَّةُ الْعَسْكَرِ. قَالَتْ: بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ؟ قَالُوا: بِشَرٍّ، فَمَا فَجَأَهَا إِلَّا الْهَزِيمَةُ، فَمَضَى الزُّبَيْرُ مِنْ وَجْهِهِ إِلَى وَادِي السِّبَاعِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْمَعْرَكَةَ لِأَنَّهُ قَاتَلَ تَعْذِيرًا لِمَا ذَكَرَ لَهُ عَلِيٌّ.
وَأَمَّا طَلْحَةُ فَأَتَاهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَأَصَابَهُ، فَشَكَّ رِجْلَهُ بِصَفْحَةِ الْفَرَسِ وَهُوَ يُنَادِي: إِلَيَّ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ! الصَّبْرَ الصَّبْرَ! فَقَالَ لَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّكَ لَجَرِيحٌ، وَإِنَّكَ عَمَّا تُرِيدُ لَعَلِيلٌ، فَادْخُلِ الْبُيُوتَ. فَدَخَلَ وَدَمُهُ يَسِيلُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ خُذْ لِعُثْمَانَ مِنِّي حَتَّى تَرْضَى، فَلَمَّا امْتَلَأَ خُفُّهُ دَمًا وَثَقُلَ قَالَ لِغُلَامِهِ: أَرْدِفْنِي وَأَمْسِكْنِي وَأَبْلِغْنِي مَكَانًا أَنْزِلُ فِيهِ. فَدَخَلَ الْبَصْرَةَ، فَأَنْزَلَهُ فِي دَارٍ خَرِبَةٍ فَمَاتَ فِيهَا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ اجْتَازَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: امْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعُكَ لَهُ، فَبَايَعَهُ، فَخَافَ أَنْ يَمُوتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ. وَلَمَّا قَضَى دُفِنَ فِي بَنِي سَعْدٍ، وَقَالَ: لَمْ أَرَ شَيْخًا أَضْيَعَ دَمًا مِنِّي. وَتَمَثَّلَ عِنْدَ دُخُولِ الْبَصْرَةِ مَثَلَهُ وَمَثَلَ الزُّبَيْرِ:
فَإِنْ تَكُنِ الْحَوَادِثُ أَقَصَدَتْنِي ... وَأَخْطَأَهُنَّ سَهْمِي حِينَ أَرْمِي
فَقَدْ ضُيِّعْتُ حِينَ تَبِعْتُ سَهْمًا ... سَفَاهًا مَا سَفِهْتُ وَضَلَّ حِلْمِي
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا ... شَرَيْتُ رِضَا بَنِي سَهْمٍ بِرَغْمِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute