الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ! وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أُلْقِيَ بَيْنَ رَهْطِي وَرَهْطِكَ حَرْبًا لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ! اخْرُجْ عَنِّي! ثُمَّ أَخَافَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَيْسًا بِالْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا هُوَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلَى عَلِيٍّ، فَشَهِدَا مَعَهُ صِفِّينَ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يَتَغَيَّظُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: لَوْ أَمْدَدْتَ عَلِيًّا بِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ لَكَانَ أَيْسَرَ عِنْدِي مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فِي رَأْيِهِ وَمَكَانِهِ.
فَلَمَّا قَدِمَ قَيْسٌ عَلَى عَلِيٍّ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ يُقَاسِي أُمُورًا عِظَامًا مِنَ الْمُكَايَدَةِ، وَجَاءَهُمْ خَبَرُ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَعَظُمَ مَحَلُّ قَيْسٍ عِنْدَهُ، وَأَطَاعَهُ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، وَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدٌ مِصْرَ قَرَأَ كِتَابَ عَلِيٍّ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا وَإِيَّاكُمْ لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَبَصَّرَنَا وَإِيَّاكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ عَمِيَ عَنْهُ الْجَاهِلُونَ. أَلَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي أَمْرَكُمْ، وَعَهِدَ إِلَيَّ مَا سَمِعْتُمْ، وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلَّا بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلَتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَإِنْ يَكُنْ مَا تَرَوْنَ مِنْ إِمَارَتِي وَأَعْمَالِي طَاعَةً لِلَّهِ فَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ هُوَ الْهَادِي لَهُ، وَإِنْ رَأَيْتُمْ عَامِلًا لِي عَمِلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَارْفَعُوهُ إِلَيَّ وَعَاتِبُونِي فِيهِ، فَإِنِّي بِذَلِكَ أَسْعَدُ، وَأَنْتُمْ [بِذَلِكَ] جَدِيرُونَ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِصَالِحِ الْأَعْمَالِ بِرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ نَزَلَ، وَلَبِثَ شَهْرًا كَامِلًا، حَتَّى بَعَثَ إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ الْمُعْتَزِلِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ وَادَعَهُمْ قَيْسٌ، فَقَالَ لَهُمْ: إِمَّا أَنْ تَدْخُلُوا فِي طَاعَتِنَا وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجُوا عَنْ بِلَادِنَا. فَأَجَابُوهُ: إِنَّا لَا نَفْعَلُ، فَدَعْنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُنَا، فَلَا تَعْجَلْ لِحَرْبِنَا. فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَامْتَنَعُوا [مِنْهُ] وَأَخَذُوا حِذْرَهُمْ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ وَهُمْ هَائِبُونَ لِمُحَمَّدٍ.
فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَصَارَ الْأَمْرُ إِلَى التَّحْكِيمِ، طَمِعُوا فِي مُحَمَّدٍ، وَأَظْهَرُوا لَهُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْحَارِثَ بْنَ جَمْهَانَ الْجُعْفِيَّ إِلَى أَهْلٍ خَرْنَبَا، وَفِيهَا يَزِيدُ بْنُ الْحَرْثِ مَعَ بَنِي كِنَانَةَ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَاتَلُوهُ وَقَتَلُوهُ. فَبَعَثَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِمْ أَيْضًا ابْنَ مَضَاهِمٍ الْكَلْبِيَّ فَقَتَلُوهُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جَرَى بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُعَاوِيَةَ مُكَاتَبَاتٌ كَرِهْتُ ذِكْرَهَا، فَإِنَّهَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ سَمَاعَهَا الْعَامَّةُ.
وَفِيهَا قَدِمَ أَبْرَازُ مَرْزُبَانَ مَرْوَ إِلَى عَلِيٍّ بَعْدَ الْجَمَلِ مُقِرًّا بِالصُّلْحِ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute