للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ضَرَّابِ هَامَاتِ الْعِدَى مِغْوَارِ

(

لَمْ يَخْشَ غَيْرَ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ

)

وَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى خَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، وَصَارَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُسْقِيهِ أَهْلَ الشَّامِ! فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَى أَصْحَابِهِ: أَنْ خُذُوا مِنَ الْمَاءِ حَاجَتَكُمْ وَخَلُّوا عَنْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَكُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. وَمَكَثَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لَا يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدًا وَلَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا دَعَا أَبَا عَمْرٍو بَشِيرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيَّ، فَقَالَ لَهُمْ: ائْتُوا هَذَا الرَّجُلَ وَادْعُوهُ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَقَالَ لَهُ شَبَثٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تُطْمِعُهُ فِي سُلْطَانٍ تَوَلِّيهِ إِيَّاهُ، أَوْ مَنْزِلَةٍ تَكُونُ لَهُ بِهَا أَثَرَةٌ عِنْدِكَ إِنْ هُوَ بَايَعَكَ؟ قَالَ: انْطَلِقُوا إِلَيْهِ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ، وَانْظُرُوا مَا رَأْيُهُ. وَهَذَا فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَتَوْهُ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَأَ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةَ إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُكَ بِعَمَلِكَ وَمُجَازِيكَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُفَرِّقُ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا.

فَقَطَعَ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ الْكَلَامَ وَقَالَ: هَلَّا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكَ؟ فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: إِنَّ صَاحِبِي لَيْسَ مِثْلَكَ، إِنَّ صَاحِبِي أَحَقُّ الْبَرِّيَّةِ كُلِّهَا بِهَذَا الْأَمْرِ، فِي الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقَرَابَةِ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَمَاذَا يَقُولُ؟ قَالَ: يَأْمُرُكَ بِتَقْوَى اللَّهِ (وَأَنْ تُجِيبَ) ابْنَ عَمِّكَ إِلَى مَا يَدْعُوكَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وَخَيْرٌ لَكَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكَ! قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَنَتْرُكُ دَمَ بْنِ عَفَّانَ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا.

قَالَ: فَذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ يَتَكَلَّمُ، فَبَادَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ قَدْ فَهِمْتُ مَا رَدَدْتَ عَلَى ابْنِ مِحْصَنٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا مَا تَطْلُبُ، إِنَّكَ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَسْتَغْوِي بِهِ النَّاسَ، وَتَسْتَمِيلُ بِهِ أَهْوَاءَهُمْ، وَتَسْتَخْلِصُ بِهِ طَاعَتَهُمْ إِلَّا قَوْلَكَ: قُتِلَ إِمَامُكُمْ مَظْلُومًا، فَنَحْنُ نَطْلُبُ بِدَمِهِ، فَاسْتَجَابَ لَكَ سُفَهَاءُ طَغَامٍ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ أَبْطَأْتَ عَنْهُ بِالنَّصْرِ، وَأَحْبَبْتَ لَهُ الْقَتْلَ لِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَصْبَحْتَ تَطْلُبُ، وَرُبَّ مُتَمَنِّي أَمْرٍ وَطَالِبُهُ يَحُولُ اللَّهُ دُونَهُ، وَرُبَّمَا أُوتِيَ الْمُتَمَنِّي أُمْنِيَتَهُ وَفَوْقَ أُمْنِيَتِهِ، وَوَاللَّهِ مَا لَكَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَيْرٌ! وَاللَّهِ إِنْ أَخْطَأَكَ مَا تَرْجُو، إِنَّكَ لَشَرُّ الْعَرَبِ حَالًا! وَلَئِنْ أَصَبْتَ مَا تَتَمَنَّاهُ لَا تُصِيبُهُ حَتَّى تَسْتَحِقَّ مِنْ رَبِّكَ صِلِيَّ النَّارِ! فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ، وَدَعْ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَلَا تُنَازِعِ الْأَمْرَ أَهْلَهُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>