ثُمَّ مَضَى، وَإِذَا عَلَى يَمِينِهِ قُبُورٌ سَبْعَةٌ أَوْ ثَمَانِيَةٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هَذِهِ؟ فَقِيلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ خَبَّابَ بْنَ الْأَرَتِّ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَخْرَجِكَ، وَأَوْصَى بِأَنْ يُدْفَنَ فِي الظَّهْرِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا يُدْفَنُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَفْنِيَتِهِمْ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دُفِنَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ وَدُفِنَ النَّاسُ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: رَحِمَ اللَّهُ خَبَّابًا، فَلَقَدْ أَسْلَمَ رَاغِبًا، وَهَاجَرَ طَائِعًا، وَعَاشَ مُجَاهِدًا، وَابْتُلِيَ فِي جِسْمِهِ أَحْوَالًا، وَلَنْ يُضِيعَ اللَّهُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا، وَوَقَفَ عَلَيْهَا وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَالْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ! أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ فَارِطٌ، وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ، وَبِكُمْ عَمَّا قَلِيلٍ لَاحِقُونَ! اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ، وَتَجَاوَزْ بِعَفْوِكَ عَنَّا وَعَنْهُمْ! طُوبَى لِمَنْ ذَكَرَ (الْمَعَادَ، وَعَمِلَ لِلْحِسَابِ، وَقَنِعَ) بِالْكَفَافِ، وَرَضِيَ عَنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -! ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى حَاذَى سِكَّةَ الثَّوْرِيِّينَ، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ فَقِيلَ: الْبُكَاءُ عَلَى قَتْلَى صِفِّينَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي أَشْهَدُ لِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ صَابِرًا مُحْتَسِبًا بِالشَّهَادَةِ. ثُمَّ مَرَّ بَالْفَائِشِيِّينَ فَسَمِعَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّ بِالشِّبَامِيِّينَ فَسَمِعَ رَجَّةً شَدِيدَةً فَوَقَفَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الشِّبَامِيُّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَيَغْلِبُكُمْ نِسَاؤُكُمْ؟ أَلَا تَنْهَوْنَهُنَّ عَنْ هَذَا الرَّنِينِ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَتْ دَارًا أَوْ دَارَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَدَرْنَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ قُتِلَ مِنْ هَذَا الْحَيِّ ثَمَانُونَ وَمِائَةُ قَتِيلٍ، فَلَيْسَ دَارٌ إِلَّا وَفِيهَا الْبُكَاءُ، فَأَمَّا نَحْنُ مَعْشَرَ الرِّجَالِ، فَإِنَّا لَا نَبْكِي، وَلَكِنَّا نَفْرَحُ بِالشَّهَادَةِ. قَالَ عَلِيٌّ: رَحِمَ اللَّهُ قَتْلَاكُمْ وَمَوْتَاكُمْ! فَأَقْبَلَ يَمْشِي مَعَهُ وَعَلِيٌّ رَاكِبٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: ارْجِعْ، وَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ، فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي، وَمَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ. ثُمَّ مَضَى حَتَّى مَرَّ بِالنَّاعِطِيِّينَ، وَكَانَ جُلُّهُمْ عُثْمَانِيَّةً، فَسَمِعَ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا صَنَعَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ذَهَبَ ثُمَّ انْصَرَفَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أُبْلِسُوا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: وُجُوهُ قَوْمٍ مَا رَأَوُا الشَّامَ. ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: [قَوْمٌ] فَارَقْنَاهُمْ آنِفًا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ قَالَ:
أَخُوكَ الَّذِي إِنْ أَجْرَضَتْكَ مُلِمَّةٌ ... مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ وَاجِمًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute