وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ دَخَلَ عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَهُ بُسْرٌ، فَقَالَ لِبُسْرٍ: وَدِدْتُ أَنَّ الْأَرْضَ أَنْبَتَتْنِي عِنْدَكَ حِينَ قَتَلْتَ وَلَدَيَّ. فَقَالَ بُسْرٌ: هَاكَ سَيْفِي. فَأَهْوَى عُبَيْدُ اللَّهِ لِيَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ لِبُسْرٍ: أَخْزَاكَ اللَّهُ شَيْخًا قَدْ خَرِفْتَ! وَاللَّهِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُ لَبَدَأَ بِي! قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَجَلْ، ثُمَّ ثَنَّيْتُ بِهِ.
(سَلِمَةُ: بِكَسْرِ اللَّامِ، بَطْنٌ مِنَ الْأَنْصَارِ) .
وَقِيلَ: إِنَّ مَسِيرَ بُسْرٍ إِلَى الْحِجَازِ كَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرًا يَسْتَعْرِضُ النَّاسَ، لَا يُقَالُ لَهُ عَنْ أَحَدٍ إِنَّهُ شَرِكَ فِي دَمِ عُثْمَانَ إِلَّا قَتَلَهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ مُهَادَنَةٌ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ بَعْدَ مُكَاتَبَاتٍ طَوِيلَةٍ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ، وَيَكُونُ لَعَلِيٍّ الْعِرَاقُ، وَلِمُعَاوِيَةَ الشَّامُ، لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ بِغَارَةٍ.
(بُسْرٌ: بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ. زُرَيْقٌ: بِالزَّايِ وَالرَّاءِ، قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَيْضًا. وَجَارِيَةُ: بِالْجِيمِ وَالرَّاءِ) .
ذِكْرُ فِرَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْبَصْرَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَلَحِقَ بِمَكَّةَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ السِّيَرِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: لَمْ يَزَلْ عَامِلًا عَلَيْهَا لَعَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، وَشَهِدَ صُلْحَ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي شَهِدَ صُلْحَ الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ.
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي الْأَسْوَدِ فَقَالَ: لَوْ كُنْتَ مِنَ الْبَهَائِمِ لَكُنْتَ جَمَلًا، وَلَوْ كُنْتَ رَاعِيًا لَمَا بَلَغْتَ الْمَرْعَى. فَكَتَبَ أَبُو الْأَسْوَدِ إِلَى عَلِيٍّ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - جَعَلَكَ وَالِيًا مُؤْتَمَنًا، وَرَاعِيًا مُسْتَوْلِيًا، وَقَدْ بَلَوْنَاكَ فَوَجَدْنَاكَ عَظِيمَ الْأَمَانَةِ، نَاصِحًا لِلرَّعِيَّةِ، تُوَفِّرُ لَهُمْ فَيْئَهُمْ، وَتَكُفُّ نَفْسَكَ عَنْ دُنْيَاهُمْ، وَلَا تَأْكُلُ أَمْوَالَهُمْ، وَلَا تَرْتَشِي فِي أَحْكَامِهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّكَ قَدْ أَكَلَ مَا تَحْتَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمِكَ، وَلَمْ يَسَعْنِي كِتْمَانُكَ - رَحِمَكَ اللَّهُ - فَانْظُرْ فِيمَا هُنَاكَ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِرَأْيِكَ فِيمَا أَحْبَبْتَ، وَالسَّلَامُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute