فَلَمَّا رَآهُمْ مَعْقِلٌ نَصَبَ رَايَتَهُ وَنَادَى:
يَا عِبَادَ اللَّهِ الْأَرْضَ الْأَرْضَ! فَنَزَلَ مَعَهُ نَحْوُ مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالرِّمَاحِ جُثَاةً عَلَى الرُّكَبِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَتَرَكُوهُمْ وَعَدَلُوا إِلَى خُيُولِهِمْ فَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا وَقَطَعُوا أَعِنَّتَهَا، فَذَهَبَتْ فِي كُلِّ جَانِبٍ، ثُمَّ مَالَ عَلَى الْمُتَفَرِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَعْقِلٍ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَعْقِلٍ وَأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى الرُّكَبِ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّ يَتَجَلْجَلُوا، فَحَمَلُوا أُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ لِأَصْحَابِهِ: لِيَنْزِلْ نِصْفُكُمْ وَيَبْقَى نِصْفُكُمْ عَلَى الْخَيْلِ. فَفَعَلُوا وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَصْحَابِ مَعْقِلٍ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ.
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلُ أَبُو الرَّوَاغِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ. وَكَانَ سَبَبُ عَوْدِهِ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَانِهِ يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا أَبْطَأُوا عَلَيْهِ أَرْسَلَ مِنْ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَرَأَوُا الْجِسْرَ مَقْطُوعًا فَفَرِحُوا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْخَوَارِجَ فَعَلُوا ذَلِكَ لَهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي الرَّوَاغِ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْهُمْ وَأَنَّ الْجِسْرَ قَدْ قَطَعُوهُ هَيْبَةً لَهُمْ.
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو الرَّوَاغِ: لَعَمْرِي مَا فَعَلُوا هَذَا إِلَّا مَكِيدَةً، وَمَا أُرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ سَبَقُوكُمْ إِلَى مَعْقِلٍ حَيْثُ رَأَوْا فُرْسَانَ أَصْحَابِهِ مَعِي، وَقَدْ قَطَعُوا الْجِسْرَ لِيَشْغَلُوكُمْ بِهِ عَنْ لَحَاقِهِمْ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ فِي الطَّلَبِ.
ثُمَّ أَمَرَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَعَقَدُوا الْجِسْرَ وَعَبَرَ عَلَيْهِ وَاتَّبَعَ الْخَوَارِجَ، فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ النَّاسِ مُنْهَزِمِينَ، فَصَاحَ بِهِمْ: إِلَيَّ إِلَيَّ! فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ وَأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَعْقِلًا يُقَاتِلُهُمْ وَمَا يَظُنُّونَهُ إِلَّا قَتِيلًا. فَجَدَّ فِي السَّيْرِ وَرَدَّ مَعَهُ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَانْتَهَى إِلَى الْعَسْكَرِ فَرَأَى رَايَةَ مَعْقِلٍ مَنْصُوبَةً وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، فَحَمَلَ أَبُو الرَّوَاغِ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْخَوَارِجِ فَأَزَالُوهُمْ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَوَصَلَ أَبُو الرَّوَاغِ إِلَى مَعْقِلٍ فَإِذَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ، فَشَدُّوا عَلَى الْخَوَارِجِ شَدَّةً مُنْكَرَةً، وَنَزَلَ الْمُسْتَوْرِدُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ وَنَزَلَ أَصْحَابُ مَعْقِلٍ أَيْضًا ثُمَّ اقْتَتَلُوا طَوِيلًا مِنَ النَّهَارِ بِالسُّيُوفِ أَشَدَّ قِتَالٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْمُسْتَوْرِدَ نَادَى مَعْقِلًا لِيَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَمَنَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكَانَ مَعَهُ سَيْفُهُ وَمَعَ الْمُسْتَوْرِدِ رُمْحُهُ، فَقَالَ أَصْحَابُ مَعْقِلٍ: خُذْ رُمْحَكَ فَأَبَى وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُسْتَوْرِدِ، فَطَعَنَهُ الْمُسْتَوْرِدُ بِرُمْحِهِ فَخَرَجَ السِّنَّانِ مِنْ ظَهْرِهِ، وَتَقَدَّمَ مَعْقِلٌ وَالرُّمْحُ فِيهِ إِلَى الْمُسْتَوْرِدِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَخَالَطَ دِمَاغَهُ فَوَقَعَ الْمُسْتَوْرِدُ مَيِّتًا وَمَاتَ مَعْقِلٌ أَيْضًا.
وَكَانَ مَعْقِلٌ قَدْ قَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَأَمِيرُكُمْ عَمْرُو بْنُ شِهَابٍ التَّمِيمِيُّ.
فَلَمَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute