فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ الْخِلَافَةَ اسْتَعْمَلَ زِيَادًا عَلَى فَارِسَ، فَضَبَطَهَا وَحَمَى قِلَاعَهَا، وَاتَّصَلَ الْخَبَرُ بِمُعَاوِيَةَ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى زِيَادٍ يَتَهَدَّدُهُ وَيُعَرِّضُ لَهُ بِوِلَادَةِ أَبِي سُفْيَانَ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ كِتَابَهُ قَامَ فِي النَّاسِ وَقَالَ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ، وَرَأْسِ النِّفَاقِ! يُخَوِّفُنِي بِقَصْدِهِ إِيَّايَ وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ ابْنَا عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَذِنَ لِي فِي لِقَائِهِ لَوَجَدَنِي أَحَمْزَ مَخْشِيًّا ضَرَّابًا بِالسَّيْفِ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي وَلَّيْتُكَ مَا وَلَّيْتُكَ وَأَنَا أَرَاكَ لَهُ أَهْلًا، وَقَدْ كَانَتْ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فَلْتَةٌ مِنْ أَمَانِيِّ الْبَاطِلِ وَكَذِبِ النَّفْسِ لَا تُوجِبُ لَهُ مِيرَاثًا وَلَا تُحِلُّ (لَهُ نَسَبًا) ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَأْتِي الْإِنْسَانَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَاحْذَرْ ثُمَّ احْذَرْ، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ زِيَادٍ وَمُصَالَحَتِهِ مُعَاوِيَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاضَعَ زِيَادٌ مَصْقَلَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ الشَّيْبَانِيَّ، وَضَمِنَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِيَقُولَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ زِيَادًا قَدْ أَكَلَ فَارِسَ بَرًّا وَبَحْرًا وَصَالَحَكَ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي يُقَالُ إِلَّا حَقًّا، فَإِذَا قَالَ لَكَ: وَمَا يُقَالُ؟ فَقُلْ: يُقَالُ إِنَّهُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَفَعَلَ مَصْقَلَةُ ذَلِكَ، وَرَأَى مُعَاوِيَةُ أَنْ يَسْتَمِيلَ زِيَادًا، وَاسْتَصْفَى مَوَدَّتَهُ بِاسْتِلْحَاقِهِ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ النَّاسُ وَحَضَرَ مَنْ يَشْهَدُ لِزِيَادٍ، وَكَانَ فِيمَنْ حَضَرَ أَبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: (بِمَ) تَشْهَدُ يَا أَبَا مَرْيَمَ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَضَرَ عِنْدِي وَطَلَبَ مِنِّي بَغِيًّا فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ عِنْدِي إِلَّا سُمَيَّةُ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِهَا عَلَى قَذَرِهَا وَوَضَرِهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَخَلَا مَعَهَا ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَإِنَّ إِسْكَتَيْهَا لَتَقْطُرَانِ مَنِيًّا. فَقَالَ لَهُ زِيَادٌ: مَهْلَا أَبَا مَرْيَمَ! إِنَّمَا بُعِثْتَ شَاهِدًا وَلَمْ تُبْعَثْ شَاتِمًا.
فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ اسْتِلْحَاقُهُ أَوَّلَ مَا رُدَّتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ عَلَانِيَةً، «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرَ» .
وَكَتَبَ زِيَادٌ إِلَى عَائِشَةَ: (مِنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَهُ: إِلَى زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَيَحْتَجُّ بِذَلِكَ، فَكَتَبَتْ: مِنْ عَائِشَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ابْنِهَا زِيَادٍ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute