ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ يَا ابْنَ عَامِرٍ أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزَّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْنِي إِلَّا عِزًّا، وَأَنِّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَرْجِعُ إِلَى مَا يُحِبُّ زِيَادٌ. قَالَ: إِذًا نَرْجِعُ إِلَى مَا تُحِبُّ. فَخَرَجَ ابْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَتَرَضَّاهُ.
فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ فِي أَمْرٍ مَا طَلَبْتُهُ إِلَّا لَكُمْ. قَالُوا: مَا تَشَاءُ؟ قَالَ: تُلْحِقُونَ نَسَبِي بِمُعَاوِيَةَ:
قَالُوا: أَمَّا بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَلَا. فَأَتَى الْبَصْرَةَ فَشَهِدَ لَهُ رَجُلٌ.
هَذَا جَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي اسْتِلْحَاقِ مُعَاوِيَةَ نَسَبَ زِيَادٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةً جَرَتْ بَعْدَ اسْتِلْحَاقِهِ، وَأَنَا أَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ وَكَيْفِيَّتَهُ، فَإِنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَنْبَغِي إِهْمَالُهَا.
وَكَانَ ابْتِدَاءُ حَالِهِ أَنَّ سُمَيَّةَ أُمَّ زِيَادٍ كَانَتْ لِدِهْقَانَ زَنْدَوَرْدَ بِكَسْكَرَ، فَمَرِضَ الدِّهْقَانُ، فَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ الطَّبِيبَ الثَّقَفِيَّ، فَعَالَجَهُ فَبَرَأَ، فَوَهَبَهُ سُمَيَّةَ، فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ أَبَا بَكْرَةَ، وَاسْمُهُ نُفَيْعٌ، فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ نَافِعًا، فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ أَيْضًا، فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ حَصَرَ الطَّائِفَ، قَالَ الْحَارِثُ لِنَافِعٍ: أَنْتَ وَلَدِي. وَكَانَ قَدْ زَوَّجَ سُمَيَّةَ مِنْ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ عُبَيْدٌ، وَهُوَ رُومِيٌّ، فَوَلَدَتْ لَهُ زِيَادًا.
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ سَارَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى الطَّائِفِ فَنَزَلَ عَلَى خَمَّارٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيُّ، وَأَسْلَمَ أَبُو مَرْيَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَبِي مَرْيَمَ: قَدِ اشْتَهَيْتُ النِّسَاءَ فَالْتَمِسْ لِي بَغِيًّا. فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي سُمَيَّةَ؟ فَقَالَ: هَاتِهَا عَلَى طُولِ ثَدْيَيْهَا وَذَفَرِ بَطْنِهَا، فَأَتَاهُ بِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَعَلِقَتْ بِزِيَادٍ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ فَلَمَّا كَبِرَ وَنَشَأَ اسْتَكْتَبَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لَمَّا وَلِيَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَكْفَى زِيَادًا أَمْرًا فَقَامَ فِيهِ مَقَامًا مَرْضِيًا، فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ حَضَرَ، وَعِنْدَ عُمَرَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَخَطَبَ خُطْبَةً لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: لِلَّهِ هَذَا الْغُلَامُ لَوْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قُرَيْشٍ لَسَاقَ الْعَرَبَ بِعَصَاهُ! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ حَاضِرٌ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَمَنْ وَضَعَهُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَبَا سُفْيَانَ اسْكُتْ فَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ لَوْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكَ لَكَانَ إِلَيْكَ سَرِيعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute