للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَعَقَدَ الْجِسْرَ وَعَبَرَ النَّاسُ، فَطَارَدَ الْخَوَارِجَ حَتَّى أَتَوُا الْمَدَائِنَ، وَطَارَدَتْ بَعْضُ خَيْلِهِمْ عِنْدَ الْجِسْرِ طِرَادًا ضَعِيفًا فَرَجَعُوا، فَأَتْبَعَهُمُ الْحَارِثُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا وَقَعُوا فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ فَاتْرُكْهُمْ. فَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتْبَعُهُمْ حَتَّى وَقَعُوا فِي أَرْضٍ أَصْبَهَانَ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، وَقَصَدُوا الرَّيَّ وَعَلَيْهَا يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعَانَ أَهْلُ الرَّيِّ الْخَوَارِجَ، فَقُتِلَ يَزِيدُ وَهَرَبَ ابْنُهُ حَوْشَبٌ، وَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:

فَلَوْ كَانَ حُرًّا حَوْشَبٌ ذَا حَفِيظَةٍ ... رَأَى مَا رَأَى فِي الْمَوْتِ عِيسَى بْنُ مُصْعَبِ

يَعْنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ لَمْ يَفِرَّ عَنْ أَبِيهِ، بَلْ قَاتَلَ عَنْهُ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ.

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا وَعِنْدَهُ حَوْشَبٌ هَذَا وَعِكْرِمَةُ بْنُ رِبْعِيٍّ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى فَرَسٍ جَوَادٍ؟ فَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَرَسُ حَوْشَبٍ، فَإِنَّهُ نَجَا عَلَيْهِ يَوْمَ الرَّيِّ. وَقَالَ بِشْرٌ أَيْضًا يَوْمًا: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى بَغْلَةٍ قَوِيَّةِ الظَّهْرِ؟ فَقَالَ حَوْشَبٌ: بَغْلَةُ وَاصِلِ بْنِ مُسَافِرٍ. كَانَ عِكْرِمَةُ يُتَّهَمُ بِامْرَأَةِ وَاصِلٍ، فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ وَقَالَ: لَقَدِ انْتَصَفْتَ.

وَلَمَّا فَرَغَ الْخَوَارِجُ مِنَ الرَّيِّ انْحَطُّوا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَحَاصَرُوهَا وَبِهَا عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَصَبَرَ لَهُمْ، وَكَانَ يُقَاتِلُهُمْ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، وَيَرْمُونَ مِنَ السُّورِ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. وَكَانَ مَعَ عَتَّابٍ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَكَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُ:

كَيْفَ تَرَوْنَ يَا كِلَابَ النَّارِ ... شَدَّ أَبِي هُرَيْرَةَ الْهَرَّارِ

يُهِرُّكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... يَا ابْنَ أَبِي الْمَاحُوزِ وَالْأَشْرَارِ

كَيْفَ تَرَى حَرْبِي عَلَى الْمِضْمَارِ

فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ كَمُنَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ فَصَرَعَهُ، فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَدَاوُوهُ حَتَّى بَرِأَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ عَلَى عَادَتِهِ.

ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ أَقَامَتْ عَلَيْهِمْ أَشْهُرًا حَتَّى نَفِدَتْ أَطْعِمَتُهُمْ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحِصَارُ، وَأَصَابَهُمُ الْجُهْدُ الشَّدِيدُ، فَقَالَ لَهُمْ عَتَّابٌ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْجُهْدِ مَا تَرَوْنَ، وَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ أَحَدُكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَدْفِنَهُ أَخُوهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَدْفِنُهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِالْقَلِيلِ، وَإِنَّكُمُ الْفُرْسَانُ الصُّلَحَاءُ، فَاخْرُجُوا بِنَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَبِكُمْ قُوَّةٌ وَحَيَاةٌ، قَبْلَ أَنْ تَضْعُفُوا عَنِ الْحَرَكَةِ مِنَ الْجُهْدِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو إِنْ صَدَقْتُمُوهُمْ أَنْ تَظْفَرُوا بِهِمْ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>