وَسَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا بَلَغَ مُصْعَبًا مَسِيرُهُ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ أَرْسَلَ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ، يَسْتَشِيرُهُ، وَقِيلَ: بَلْ أَحْضَرَهُ عِنْدَهُ، فَقَالَ لِمُصْعَبٍ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ كَاتَبُوا عَبْدَ الْمَلِكِ وَكَاتَبَهُمْ، فَلَا تُبْعِدْنِي عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ أَبَوْا (أَنْ يَسِيرُوا حَتَّى أَجْعَلَكَ عَلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ قَدْ بَلَغُوا سُوقَ الْأَهْوَازِ، وَأَنَا أَكْرَهُ إِذْ سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيَّ أَنْ لَا أَسِيرَ إِلَيْهِ، فَاكْفِنِي هَذَا الثَّغْرَ.
فَعَادَ إِلَيْهِمْ، وَسَارَ مُصْعَبٌ إِلَى الْكُوفَةِ وَمَعَهُ الْأَحْنَفُ، فَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ، وَأَحْضَرَ مُصْعَبٌ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ، فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ جَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ بَاجُمَيْرَى، وَهِيَ قَرِيبٌ [مِنْ] أَوَانَا، وَهِيَ مِنْ مَسْكِنٍ، فَعَسْكَرَ هُنَاكَ.
وَسَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، فَنَزَلُوا بِقَرْقِيسِيَا، وَحَصَرُوا زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكَلَّائِيَّ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
وَسَيَّرَ زُفَرُ ابْنَهُ الْهُذَيْلَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. فَلَمَّا اصْطَلَحَا سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ، فَنَزَلُوا بِمَسْكِنٍ قَرِيبًا مِنْ عَسْكَرِ مُصْعَبٍ، بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ، وَيُقَالُ: فَرْسَخَانِ، وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ كَاتَبَهُ وَمَنْ لَمْ يُكَاتِبْهُ، وَبَذَلَ لِجَمِيعِهِمْ أَصْبَهَانَ طُعْمَةً، وَقِيلَ: إِنَّ كُلَّ مَنْ كَاتَبَهُ طَلَبَ مِنْهُ إِمْرَةَ أَصْبَهَانَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذِهِ أَصْبَهَانُ حَتَّى كُلُّهُمْ يَطْلُبُهَا!
فَكُلٌّ مِنْهُمْ أَخْفَى كِتَابَهُ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، فَإِنَّهُ أَحْضَرَ كِتَابَهُ عِنْدَ مُصْعَبٍ مَخْتُومًا، فَقَرَأَهُ مُصْعَبٌ، فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَجْعَلُ لَهُ وِلَايَةَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَتَدْرِي مَا فِيهِ. قَالَ: لَا. قَالَ: يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّ هَذَا لَمَا يُرْغَبُ فِيهِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كُنْتُ لِأَتَقَلَّدَ الْغَدْرَ وَالْخِيَانَةَ، وَوَاللَّهِ مَا عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِأَيْأَسَ مِنْهُ مِنِّي، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَصْحَابِكَ كُلِّهِمْ مِثْلَ الَّذِي كَتَبَ إِلَيَّ، فَأَطِعْنِي وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: إِذًا لَا يُنَاصِحُنِي عَشَائِرُهُمْ. قَالَ: فَأَوْقِرْهُمْ حَدِيدًا وَابْعَثْ بِهِمْ إِلَى أَبْيَضِ كِسْرَى، وَاحْبِسْهُمْ هُنَاكَ، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ إِنْ غُلِبْتَ وَتَفَرَّقَتْ عَشَائِرُهُمْ عَنْكَ ضَرَبَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute