للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَقَالَ: هَذَا رَأْيَيٌ وَالَّذِي (قُمْتُ بِهِ دَاعِيًا) إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ، وَأَنْ تُسْتَحَلَّ حُرُمَاتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَقَدْ زِدْتِنِي بَصِيرَةً، فَانْظُرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ فِي يَوْمِي هَذَا، فَلَا يَشْتَدَّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكَ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمَلًا بِفَاحِشَةٍ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدِرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عُمَّالِي فَرَضِيتُ بِهِ، بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ آثَرَ عِنْدِي مِنْ رِضَا رَبِّي، اللَّهُمَّ لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، وَلَكِنِّي أَقُولُهُ تَعْزِيَةً لِأُمِّي حَتَّى تَسْلُوَ عَنِّي! .

فَقَالَتْ أُمُّهُ: [إِنِّي] لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ جَمِيلًا، إِنْ تَقَدَّمْتَنِي احْتَسَبْتُكَ، وَإِنْ ظَفَرْتَ سُرِرْتُ بِظَفَرِكَ، اخْرُجْ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُكَ. فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَلَا تَدَعِي الدُّعَاءَ لِي. قَالَتْ: لَا أَدَعُهُ لَكَ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى حَقٍّ. ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَاكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَلِكَ النَّحِيبَ وَالظَّمَأَ فِي هَوَاجِرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي! اللَّهُمَّ قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَأَثِبْنِي فِيهِ ثَوَابَ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ! .

فَتَنَاوَلَ يَدَيْهَا لِيُقَبِّلَهُمَا فَقَالَتْ: هَذَا وَدَاعٌ فَلَا تَبْعَدْ. فَقَالَ لَهَا: جِئْتُ مُوَدِّعًا ; لِأَنِّي أَرَى هَذَا آخِرَ أَيَّامِي مِنَ الدُّنْيَا. قَالَتْ: امْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ، وَادْنُ مِنِّي حَتَّى أُوَدِّعَكَ. فَدَنَا مِنْهَا فَعَانَقَهَا وَقَبَّلَهَا، فَوَقَعَتْ يَدُهَا عَلَى الدِّرْعِ فَقَالَتْ: مَا هَذَا صَنِيعُ مَنْ يُرِيدُ مَا تُرِيدُ. فَقَالَ: مَا لَبِسْتُهُ إِلَّا لِأَشُدَّ مِنْكِ. قَالَتْ: فَإِنَّهُ لَا يَشُدُّ مِنِّي. فَنَزَعَهَا ثُمَّ دَرَجَ كُمَّيْهِ، وَشَدَّ أَسْفَلَ قَمِيصِهِ وُجَبَّةَ خَزٍّ تَحْتَ أَثْنَاءِ السَّرَاوِيلِ، وَأَدْخَلَ أَسْفَلَهَا تَحْتَ الْمِنْطَقَةِ، وَأُمُّهُ تَقُولُ لَهُ: الْبَسْ ثِيَابَكَ مُشَمَّرَةً. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ يَوْمَهُ الْحُرُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>