وَشَقَّ عَلَى بِشْرٍ أَنَّ إِمْرَةَ الْمُهَلَّبِ جَاءَتْ مِنْ [قِبَلِ] عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَوْغَرَتْ صَدْرَهُ عَلَيْهِ حَتَّى كَأَنَّهُ أَذْنَبَ إِلَيْهِ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ فَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدِي، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أُوَلِّيَكَ هَذَا الْجَيْشَ الَّذِي أُسَيِّرُهُ مِنَ الْكُوفَةِ لِلَّذِي عَرَفْتُهُ مِنْكَ، فَكُنْ عِنْدَ أَحْسَنِ ظَنِّي بِكَ، وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْكَذَا كَذَا، يَقَعُ فِي الْمُهَلَّبِ، فَاسْتَبِدَّ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ، وَلَا تَقْبَلَنَّ لَهُ مَشُورَةً وَلَا رَأْيًا، وَتَنَقَّصْهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَتَرَكَ أَنْ يُوصِيَنِي بِالْجَيْشِ، وَقِتَالِ الْعَدُوِّ، وَالنَّظَرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَأَقْبَلَ يُغْرِينِي بِابْنِ عَمِّي كَأَنِّي مِنَ السُّفَهَاءِ، مَا رَأَيْتُ شَخْصًا مِثْلِي طُمِعَ مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى أَنِّي لَسْتُ بِنَشِيطٍ إِلَى جَوَابِهِ قَالَ لِي: مَا لَكَ؟ قُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَهَلْ يَسَعُنِي إِلَّا إِنْفَاذُ أَمْرِكَ فِيمَا أَحْبَبْتُ وَكَرِهْتُ!
وَسَارَ الْمُهَلَّبُ حَتَّى نَزَلَ رَامَهُرْمُزَ، فَلَقِيَ بِهَا الْخَوَارِجَ فَخَنْدَقَ عَلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ جَرِيرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَزَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمُهَلَّبِ، حَيْثُ يَتَرَاءَى الْعَسْكَرَانِ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَلْبَثِ الْعَسْكَرُ إِلَّا عَشْرًا حَتَّى أَتَاهُمْ نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، فَتَفَرَّقَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ بِشْرٌ عَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، وَكَانَ خَلِيفَتَهُ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ.
وَكَانَ الَّذِينَ انْصَرَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوُا الْأَهْوَازَ، فَاجْتَمَعَ بِهَا نَاسٌ كَثِيرٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَيُهَدِّدُهُمْ - إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا - بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، وَيُحَذِّرُهُمْ عُقُوبَةَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرَأَ الرَّسُولُ مِنَ الْكِتَابِ عَلَيْهِمْ سَطْرًا أَوْ سَطْرَيْنِ قَالَ زَحْرٌ: أَوْجِزْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لَمْ يَلْتَفِتِ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ زَحْرٌ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا إِلَى جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: إِنَّ النَّفَرَ لَمَّا بَلَغَهُمْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ تَفَرَّقُوا، فَأَقْبَلْنَا إِلَى مِصْرِنَا وَأَحْبَبْنَا أَلَّا نَدْخُلَ إِلَّا بِإِذْنِ الْأَمِيرِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ عَوْدَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْكُوفَةِ، فَانْتَظَرُوا اللَّيْلَ ثُمَّ دَخَلُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَأَقَامُوا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute