ثُمَّ وَعَظَ أَصْحَابَهُ وَأَمَرَهُمْ بِأَمْرِهِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَكْثَرَكُمْ رَجَّالَةٌ، وَهَذِهِ دَوَابٌّ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَابْدَؤُوا بِهَا فَاحْمِلُوا عَلَيْهَا رِجَالَكُمْ، وَتَقَوَّوْا بِهَا عَلَى عَدُوِّكُمْ.
فَخَرَجُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَأَخَذُوا الدَّوَابَّ فَاحْتَمَلُوا عَلَيْهَا، وَأَقَامُوا بِأَرْضِ دَارَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُهَا وَأَهْلُ نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، وَكَانَ خُرُوجُهُ وَهُوَ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَقِيلَ: وَعَشْرَةٍ.
وَبَلَغَ مُحَمَّدًا مَخْرَجُهُمْ، وَهُوَ أَمِيرُ الْجَزِيرَةِ، فَأَرْسَلَ عَدِيَّ بْنَ عَدِيٍّ الْكِنْدِيَّ إِلَيْهِمْ فِي أَلْفِ فَارِسٍ، فَسَارَ مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ دَوْغَانَ، وَكَانُوا أَوَّلَ جَيْشٍ سَارَ إِلَى صَالِحٍ، وَسَارَ عَدِيٌّ وَكَأَنَّهُ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَالِحٍ يَسْأَلُهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ وَيُعْلِمُهُ أَنَّهُ يَكْرَهُ قِتَالَهُ، وَكَانَ عَدِيٌّ نَاسِكًا، فَأَعَادَ صَالِحٌ: إِنْ كُنْتَ تَرَى رَأْيَنَا خَرَجْنَا عَنْكَ، وَإِلَّا فَنَرَى رَأْيَنَا. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَدِيٌّ: إِنِّي لَا أَرَى رَأْيَكَ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ وَقِتَالَ غَيْرِكَ. فَقَالَ صَالِحٌ لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا. فَرَكِبُوا، وَحَبَسَ الرَّسُولَ عِنْدَهُ وَمَضَى بِأَصْحَابِهِ، فَأَتَى عَدِيًّا وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالْخَيْلُ طَالِعَةٌ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهَا تَنَادَوْا، وَجَعَلَ صَالِحٌ شَبِيبًا فِي مَيْمَنَتِهِ، وَسُوَيْدَ بْنَ سُلَيْمٍ فِي مَيْسَرَتِهِ، وَوَقَفَ فِي الْقَلْبِ، فَأَتَاهُمْ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ تَعْبِيَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَجُولُ فِي بَعْضٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ وَسُوَيْدٌ فَانْهَزَمُوا، وَأُتِيَ عَدِيُّ بْنُ عَدِيٍّ بِدَابَّتِهِ فَرَكِبَهَا وَانْهَزَمَ، وَجَاءَ صَالِحٌ وَنَزَلَ فِي مُعَسْكَرِهِ، وَأَخَذُوا مَا فِيهِ.
وَدَخَلَ أَصْحَابُ عَدِيٍّ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَغَضِبَ عَلَى عَدِيٍّ، ثُمَّ دَعَا خَالِدَ بْنَ جَزْءٍ السُّلَمِيَّ، فَبَعَثَهُ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَدَعَا الْحَارِثَ بْنَ جَعْوَنَةَ الْعَامِرِيَّ، فَبَعَثَهُ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ: اخْرُجَا إِلَى هَذِهِ الْمَارِقَةِ، وَأَغِذَّا السَّيْرَ، فَأَيُّكُمَا سَبَقَ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى صَاحِبِهِ. فَخَرَجَا مُتَسَانِدَيْنِ يَسْأَلَانِ عَنْ صَالِحٍ، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهُ نَحْوَ آمِدَ، فَقَصَدَاهُ، فَوَجَّهَ صَالِحٌ شَبِيبًا فِي شَطْرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ، وَتَوَجَّهَ هُوَ نَحْوَ خَالِدٍ، فَاقْتَتَلُوا مِنْ وَقْتِ الْعَصْرِ أَشَدَّ قِتَالٍ، فَلَمْ تَثْبُتْ خَيْلُ مُحَمَّدٍ لِخَيْلِ صَالِحٍ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَاهُمْ ذَلِكَ تَرَجَّلَا، وَتَرَجَّلَ مَعَهُمَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِمَا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَصْحَابُ صَالِحٍ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا إِذَا حَمَلُوا اسْتَقْبَلَتْهُمُ الرَّجَّالَةُ بِالرِّمَاحِ، وَرَمَاهُمُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ، وَطَارَدَهُمْ خَيَّالَتُهُمْ، فَقَاتَلُوهُمْ إِلَى الْمَسَاءِ، فَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ صَالِحٍ نَحْوُ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَمِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ.
فَلَمَّا أَمْسَوْا تَرَاجَعُوا، فَاسْتَشَارَ صَالِحٌ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ شَبِيبٌ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ اعْتَصَمُوا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute