أَعْيَنَ، وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى كَلْوَاذَى، فَقَطَعَ فِيهَا دِجْلَةَ، (ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ مَدِينَةَ بَهُرَسِيرَ الدُّنْيَا، فَصَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُطَرِّفٍ [جِسْرُ] دِجْلَةَ) ، وَقَطَعَ مُطَرِّفٌ الْجِسْرَ وَبَعَثَ إِلَى شَبِيبٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ رِجَالًا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِكَ أُدَارِسُهُمُ الْقُرْآنَ، وَأَنْظُرُ فِيمَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ قَعْنَبَ بْنَ سُوَيْدٍ وَالْمُحَلِّلَ وَغَيْرَهُمَا، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهَائِنَ إِلَى أَنْ يَعُودُوا، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا لَمْ يَتْبَعْهُ مُطَرِّفٌ تَهَيَّأَ لِلْمَسِيرِ إِلَى عَتَّابٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي كُنْتُ عَازِمًا أَنْ آتِيَ أَهْلَ الشَّامِ جَرِيدَةً، وَأَلْقَاهُمْ عَلَى غِرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلُوا بِأَمِيرٍ مِثْلِ الْحَجَّاجِ، وَمِصْرٍ مِثْلِ الْكُوفَةِ، فَثَبَّطَنِي عَنْهُمْ مُطَرِّفٌ، وَقَدْ جَاءَتْنِي عُيُونِي، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ أَوَائِلَهُمْ قَدْ دَخَلُوا عَيْنَ التَّمْرِ، فَهُمُ الْآنَ قَدْ شَارَفُوا الْكُوفَةَ، وَقَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ عَتَّابًا وَمَنْ مَعَهُ بِالْبَصْرَةِ، فَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَتَيَسَّرُوا لِلْمَسِيرِ إِلَى عَتَّابٍ.
وَخَافَ مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنْ يَبْلُغَ خَبَرُهُ مَعَ شَبِيبٍ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ نَحْوَ الْجِبَالِ. فَأَرْسَلَ شَبِيبٌ أَخَاهُ مُصَادًا إِلَى الْمَدَائِنِ وَعَقَدَ الْجِسْرَ، وَأَقْبَلَ عَتَّابٌ إِلَيْهِ حَتَّى نَزَلَ بِسُوقِ حَكَمَةَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الشَّبَابِ وَالْأَتْبَاعِ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَارُوا: إِنَّ لِلسَّائِرِ الْمُجْتَهِدِ الْكَرَامَةَ وَالْأَثَرَةَ، وَلِلْهَارِبِ الْهَوَانَ وَالْجَفْوَةَ، وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ فَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كَفِعْلِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْأُخَرِ لَأُوَلِّيَنَّكُمْ كَنَفًا خَشِنًا، وَلَأُعْرِكَنَّكُمْ بِكَلْكَلٍ ثَقِيلٍ.
فَلَمَّا بَلَغَ عَتَّابٌ سُوقَ حَكَمَةَ أَتَاهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ بِالْمَدَائِنِ أَلْفَ رَجُلٍ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَسَارَ بِهِمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِسَابَاطَ، وَصَلَّى الْعَصْرَ وَسَارَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى عَتَّابٍ وَعَسْكَرِهِ، فَلَمَّا رَآهُمْ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، وَكَانَ عَتَّابٌ قَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ، فَجَعَلَ فِي الْمَيْمَنَةِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ شَرِيفٌ صَابِرٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَصْبِرَنَّ مَا ثَبَتَ مَعِيَ إِنْسَانٌ. وَقَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ وَالِقٍ الثَّعْلَبِيِّ: اكْفِنِي الْمَيْسَرَةَ. فَقَالَ: أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا أَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ إِلَّا أَنْ أُقَامَ. فَجَعَلَ عَلَيْهَا نُعَيْمَ بْنَ عُلَيْمٍ، وَبَعَثَ حَنْظَلَةَ بْنَ الْحَارِثِ الْيَرْبُوعِيَّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّهِ وَشَيْخُ أَهْلِ بَيْتِهِ، عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَصَفَّهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ: صَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ السُّيُوفِ، وَصَفٌّ فِيهِمْ أَصْحَابُ الرِّمَاحِ، وَصَفٌّ فِيهِمُ الرُّمَاةُ، ثُمَّ سَارَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ الْقَصَّاصُ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ مَنْ يَرْوِي شِعْرَ عَنْتَرَةَ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، كَأَنِّي بِكُمْ قَدْ فَرَرْتُمْ عَنْ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَتَرَكْتُمُوهُ تَسْفِي فِي اسْتِهِ الرِّيحُ!
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute